حين أعلِن في القمّة العربية الأخيرة التي عقدت في ​المملكة العربية السعودية​ بأنّ ​لبنان​ سيستضيف ​القمة العربية​ التنمويّة: الاقتصاديّة والاجتماعيّة، بدأ المسؤولون اللبنانيون بتبادل التهاني، معتقدين بأنّ هذه القمّة، التي يفترض أن تعقد خلال شهر كانون الثاني الجاري إذا لم يطرأ طارئ في اللحظة الأخيرة، ستشكّل فرصة لتعزيز حضور لبنان ومكانته عربياً، وللاستفادة منها اقتصادياً بالدرجة الأولى.

لكنّ الضجّة التي أحيطت بها القمّة في الساعات الماضية، وقبل أيام من موعدها المفترض، حوّل لبنان من رابحٍ مفترض إلى "الخاسر الأكبر" بامتياز، خاسر لأنّه ثبّت مقولة "الهيبة المفقودة"، وجعل القمّة تتحوّل بقدرة قادر إلى ملفّ خلافيّ إشكاليّ بين اللبنانيين لا أحد يعرف كيف بدأ ولا كيف سينتهي، يُضاف إلى سلسلة الملفّات الخلافيّة التي تضجّ بها الساحة اللبنانيّة أصلاً.

وإذا كانت الجامعة العربيّة نأت بنفسها عن السجالات الحاصلة، باعتبارها خلافات لبنانية داخلية محض لا علاقة لها بها، وبمُعزَلٍ عمّا إذا كانت القمّة ستُعقَد في موعدها وستنجح أم لا، فإنّ السؤال الأكبر الذي بدأ يُطرَح في الكواليس السياسية هو، هل تجرؤ الجامعة على تسليم لبنان إدارة أيّ قمّةٍ، مهما صغر أو كبر حجمها، في المستقبل؟!.

خارج السيطرة

صحيح أنّ "أزمة" القمّة العربيّة التنمويّة بدأت بعنوان عدم ​تشكيل الحكومة​ اللبنانية، مع اقتراح رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ تأجيلها، حتى لا تأتي "هزيلة" في ظلّ عجز اللبنانيين عن تشكيل حكومة جديدة منذ حوالي ثمانية أشهر، إلا أنّها سرعان ما اتّخذت أبعاداً أخرى، مع ما يمكن اعتباره "لغم" المشاركة الليبيّة في القمّة، التي رأى فيها البعض "فرصة" ربما للانقضاض على الحدث برمّته.

خلال عطلة نهاية الأسبوع، بدأ الجميع يدرك أنّ الأمور خرجت عن السيطرة، أو ربما أريد لها ذلك عن سابق تصوّر وتصميم، مع استحضار قضية إخفاء الإمام ​موسى الصدر​ في ​ليبيا​. خرج مناصرو حركة "أمل" إلى الشوارع، "بعفويّة" وفقاً للرواية الرسميّة، وعلا التهديد والوعيد، وسط تأكيد بأنّ أيّ وفدٍ ليبيّ لن يُسمَح له بالدخول إلى لبنان، ووصل الأمر إلى حدّ قيام بعض الناشطين بنزع العلم الليبي ووضع علم الحركة مكانه، في مشهدٍ بدا مستفزاً، ولو ارتبط بقضيّةٍ وجدانيّة تخصّ كلّ اللبنانيّين بحجم قضيّة الإمام الصدر، علماً أنّ ليبيا سبق أن شاركت في قمّةٍ عربيّةٍ في بيروت في العام 2002، في زمن نظام الرئيس الليبي الراحل ​معمر القذافي​، المسؤول عن إخفاء الصدر، وإن اختلفت الآراء بـ"قيمة" الوفد الذي حضر وقتها، بين من يعتبره "رفيع المستوى"، ومن يرى فيه "حداً أدنى".

لحركة "أمل" وجهة نظرها من المسألة، بمُعزَلٍ عمّا إذا كان صحيحاً أنّها كانت وافقت على المشاركة ثمّ تراجعت أم لا، وبغضّ النظر عن التطورات "الدراماتيكية" التي شهدتها القضية في الساعات الماضية، مع إعلان ليبيا مقاطعتها القمّة، ودعوة البعض فيها إلى "تجميد العلاقات الدبلوماسية" مع لبنان. وتعتبر الحركة أن النظام الليبي الجديد الذي استبشر به اللبنانيون خيراً، بعد إسقاط نظام القذافي، لم يكن أفضل منه عملياً، إذ إنّه لم يتعاون مع السلطات اللبنانيّة بشكل جدّي لكشف مصير الإمام المغيّب، بل إنّ حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دولياً برئاسة فائز السراج، تجاهلت القضيّة، ولم تفعل شيئاً لإيجاد حلّ جذري لها، وكأنّها من "تراكمات" النظام السابق التي تريد طيّها، بأيّ ثمنٍ من الأثمان.

ماذا كسب لبنان؟!

في النتيجة، وُجِد "المَخرَج". أعلنت ليبيا أنّها لن تشارك في القمّة المنتظرة في بيروت "على أيّ مستوى"، متحدّثة عن "إهانة" تعرّض لها العلم الليبي في قلب العاصمة بيروت، فيما ذهب البعض لحدّ الحديث عن قرارٍ متّخَذ بمنع دخول الوفد الليبي في حال حضوره، تفادياً لأيّ حساسيّات يمكن أن تحصل.

إزاء ذلك، وأياً كان المسار الذي ستسلكه الأمور في الساعات المقبلة، تُطرَح علامة الاستفهام الكبرى، ما الذي كسبه لبنان من كلّ الضجّة المفتعلة حول المشاركة الليبية في القمّة؟!

بالنسبة إلى شريحة من اللبنانيين، يكفي الكسب المعنويّ ليكون لبنان رابحاً. فبالحدّ الأدنى، استطاع لبنان إعادة إحياء قضيّة تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، بعدما حاول الكثيرون في الداخل والخارج طيّها، وبالتالي أراد القول لكلّ من يعنيهم الأمر، وخصوصاً للنظام الليبي الجديد، بأنّ أيّ علاقاتٍ مع لبنان لا يمكن أن تستقيم قبل حلّ هذه القضيّة، وبأنّ لبنان لا يمكن أن يسكت على أيّ إهمالٍ أو تجاهلٍ أو تجاوزٍ لهذه القضيّة المفصليّة، مهما طال الوقت أو قصر.

لكن، أبعد من الكسب "المعنويّ"، خسائر بالجملة يرصدها المتابعون، الذين يعتبرون تفجير ملفّ المشاركة الليبية مجرّد "ذريعة" لا أكثر، و"غطاء" لمحاولة تعطيل القمّة اعتراضاً على عدم مشاركة ​سوريا​ فيها، وهنا بيت القصيد. وخير دليلٍ على ذلك، وفق هذا الرأي، أنّ مسألة المشاركة الليبية لم تُطرَح بهذا الشكل "التفجيري" إلا قبل أيام من موعد القمّة المفترض، في حين أنّ التحضيرات للقمّة بدأت منذ أكثر من ثمانية أشهر، بعلم وإدراك الجميع.

وسواء كان تفجير إشكاليّة مشاركة ليبيا ذريعة أم لا، فإنّ السؤال يبقى، أيّ صورةٍ قدّمها لبنان أمام العرب والعالم؟ أليست ليبيا عضواً في جامعة الدول العربيّة، وبالتالي على من يريد استضافة حدثٍ يخصّ الجامعة أن يدعوها شأنها شأن غيرها بمعزلٍ عن أيّ حساباتٍ أو اعتباراتٍ أخرى، وإلا فكان الحريّ به الاعتذار عن عدم استضافة القمّة من الأصل، بدل التفاخر بذلك؟

"الأزمة" لم تنتهِ...

برأي كثيرين، فإنّ "الأزمة" التي تمّ افتعالها حول القمّة العربيّة التنمويّة لم تنتهِ فصولاً بإعلان ليبيا مقاطعتها للقمّة، باعتبار أنّ الإشكالية الليبية ليست الأساس، وإن حظيت بالصدارة، بل إنّ المشكلة الحقيقيّة في مكانٍ آخر مرتبط تحديداً بدعوة سوريا إلى القمّة، ولو لم يكن لبنان صاحب القرار في ذلك، كما يدرك المعترضون.

في أيّ حال، وأياً كان "مصير" القمّة في ظلّ التجاذبات الحاصلة في الشوط الأخير قبل موعدها، يبقى السؤال، هل هناك من سيجرؤ في المستقبل على اقتراح استضافة لبنان لأيّ حدثٍ أو قمّة، وهو يدرك أنّ بالإمكان منع وفدٍ ما مثلاً من الحضور تحت الضغط والتهديد، فيما الدولة تتفرّج ولا حول لها ولا قوّة؟!