لم يكن متوقّعاً أن يحقق "اللقاء الوجداني" الذي دعا إليه ​البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي​ في ​بكركي​ المستحيل، فيجمع الأقطاب ​الموارنة​ على كلمة واحدة، أو حتى مقاربة واحدة للأزمات المفصليّة، ولو كانت التهديدات التي تحدق بهم جميعاً، وبالوطن ككلّ، تتخطّى بأشواط كلّ حساباتهم، وربما طموحاتهم الشخصيّة.

صحيحٌ أنّ البيان الختامي الذي صدر عن اللقاء قد يكون عاماً، ولو كرّس ثوابت ومبادئ وطنيّة، إلا أنّه يمكن القول إنّ اللقاء نجح، من زوايا عدّة، وبمجرّد حصوله، وتمثّل قيادات الصفّ الأول فيه بشكلٍ خاص، ولو قرأ كلّ فريقٍ الدعوة إليه، والمغزى منه، بما يحلو له، ويخدم أجندته السياسيّة بشكلٍ أو بآخر.

لكن ثمّة من يتحدّث في المقابل، عن "خيبة" أفرزها اللقاء، الذي تحوّل بقدرة قادر من عامل "جمع" إلى "تفرقة"، وهو ما تجلّى في السجالات الناريّة التي أعقبته خصوصاً بين "تيار ​المردة​" و"​التيار الوطني الحر​"، على خلفيّة السجال الذي شهده الاجتماع بين رئيسيهما حول ​الحكومة​ و"الثلث"...

جملة مكاسب

بمُعزَلٍ عمّا أعقب اللقاء من سجالاتٍ على أكثر من خطّ، يمكن القول إن "اللقاء الوجداني" في بكركي حقّق سلسلة مكاسب، تجعل منه لقاءً ناجحاً من حيث المبدأ، وفي الشكل قبل المضمون، علماً أنّ أحداً لم يكن يراهن على أنّ هذا اللقاء سيحقّق معجزة التقاءٍ مسيحيّ لا تبدو مقوّماته متوافرة لأكثر من سبب.

وفي هذا السياق، لا شكّ أنّ "الإنجاز" الأول الذي يُحتسَب للقاء هو أنّه نجح في جمع أقطابٍ أصرّوا على الافتراق، وحوّلوا مجرّد مصافحة فيما بينهم، أو حتى جلوسهم على طاولة واحدة، إلى "حدث" بحدّ ذاته. وإذا كان مثل هذا النجاح هو "شكليّ" برأي كثيرين، إلا أنّه قد يشكّل خطوة أولى في مسار اعتراف الأفرقاء المختلفين ببعضهم بعضاً، على رغم الاختلاف المستمرّ فيما بينهم، خصوصاً في ظلّ غياب أيّ إطارٍ جامعٍ آخر لهم، كما كان يحصل سابقاً مثلاً من خلال جلسات الحوار الدوريّة التي كان يشهدها ​قصر بعبدا​.

هكذا، لا يمكن لمصافحة رئيس "​تيار المردة​" ​سليمان فرنجية​ وخصمه "اللدود" رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير ​جبران باسيل​ أن تمرّ مرور الكرام، ولو أتت "باردة" و"لرفع العتب" ليس إلا، برأي معظم المتابعين. وإذا كان جلوس باسيل إلى جانب رئيس حزب "الكتائب" ​سامي الجميل​ بدا معبّراً هو الآخر، فإنّ اجتماع نواب من "التيار" و"المردة" و"الكتائب" إضافة إلى "​القوات اللبنانية​" وسائر النواب الموارنة، يبقى بحدّ ذاته مهماً من حيث الشكل، وكذلك المضمون، باعتبار أنّ اللقاء شهد نقاشاتٍ صريحة وواضحة، وإن لم تخلُ من بعض المناوشات الطبيعية.

وانسجاماً مع هذا الاعتراف بالاختلاف، يأتي النجاح الثاني الذي حققه اللقاء، بعدم جعل "حدث" التقاء المختلفين "يتيماً"، ينتهي مفعوله بانتهائه، كما يحصل في غالبية اللقاءات المشابهة، وذلك في ضوء تشكيل "لجنة متابعة" يفترض أن تجتمع دورياً لبحث القضايا والمستجدّات. وإذا كان الكثيرون يتشاءمون من اللجان، خصوصاً تلك التي تنبثق عن لقاءاتٍ بهذا الحجم والشكل، فإنّ ثمّة من يعتبرها مؤشراً إيجابياً هنا، خصوصاً أنّ المجتمعين كان بإمكانهم "ادّعاء" الاتّفاق، أو حتى الاكتفاء ببيان الثوابت والمبادئ العامة، بعيداً عن أيّ بحثٍ آخر بنقاط الاختلاف، التي لا يشكّ أحد في أنّها تبقى الأساس والجوهر.

التفرقة أولاً؟!

وانطلاقاً من النقطتين السابقتين، يمكن الحديث عن نجاح ثالث حقّقه اللقاء، قد يكون الأهمّ إن عرف الأفرقاء استثماره في المرحلة المقبلة، ويتمثل بإعادة الزخم إلى بعض "التفاهمات" التي كادت تصبح في "خبر كان"، ولو أنّه أرسى ما هو أبعد من "التفاهمات الثنائية" التي باتت تفرّق أكثر ممّا تجمع، وهنا بيت القصيد. ولوحظ في هذا السياق "الهدوء المعبّر" الذي شهدته جبهة "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، وإن غاب رئيس "القوات" ​سمير جعجع​ بداعي السفر، وهو هدوءٌ كاد يصبح "طيّ النسيان" منذ تفاقم الخلافات بين الطرفين، على خلفية المناوشات الحكومية فيما بينهما، علماً أنّ معلوماتٍ تمّ تداولها عن "تنسيق مسبق" بين الطرفين سبق اللقاء لمنع فشله، ولعب النائبان ​إبراهيم كنعان​ و​جورج عدوان​ دوراً رئيساً على خطّه.

لكن، إذا كان اللقاء أعاد الزخم إلى العلاقة الثنائية بين "التيار" و"القوات" بعد فترة من "القطيعة"، فإنّ ثمّة من يرى في المقابل أنه أعاد "السخونة" إلى الخلاف بين "التيار" و"المردة"، بعد فترة من "​الهدنة​ ​النسبية​" بين الجانبين. هكذا، شكّل اللقاء مناسبة لـ"سجال متجدّد" بين الجانبين افتتحه رئيس تيار "المردة" بتوجيه الاتهامات إلى "العهد" وتحميله مسؤولية الأزمة الحكومية المستفحلة، وإعلان رفضه صراحةً منح "الثلث المعطل" في الحكومة لـ"التيار"، ليجد بطبيعة الحال ترجمةً فوريّة بتصريحاتٍ عالية السقف والنبرة لنواب وقياديّي الطرفين، أعادت الأجواء فيما بينهما إلى ما تلا أزمة ​الانتخابات الرئاسية​ وما أفرزته من خصامٍ بينهما.

قد يكون من الظلم تحميل "لقاء بكركي" مسؤولية شحن الأجواء المشحونة أصلاً بين الجانبين، خصوصاً أنّ كلّ الوساطات التي بُذِلت لم تنجح في ترطيب الأجواء وإعادة تطبيع العلاقات بينهما بالحدّ الأدنى، والتي وقف خلفها من "يمون" على الطرفين، إلا أنّ ذلك لا يمنع أنّ اللقاء الذي أراد "الجمع" فاقم، من حيث لا يقصد، "الفرقة" في هذه الجزئية. وهنا، يؤكد الطرفان أنّ أيّ "نيّة" بالتصعيد لم تكن مبيّتة، علماً أنّ "المردة" يبرّر الهجوم الذي شنّه على باسيل و"العهد" في اللقاء، بالقول إنّ فرنجية أراد "التصدّي" لمحاولة تصوير الاجتماع من جانب "الوطني الحر" وكأنّه لدعم حصول الأخير إلى جانب ​رئيس الجمهورية​، على الثلث في الحكومة، وهو ما يعتبره "المردة" موجّهاً ضدّ معارضي "العهد" من المسيحيين في المقام الأول. أما "الوطني الحر" فيستغرب سلوك "المردة" الذي لم يأتِ لا في مكانه ولا في زمانه، خصوصاً أنّ الهدف من اللقاء كان فتح القلوب، وهو ما فعله باسيل باقترابه من فرنجية لمصافحته، وليس تزكية الخلافات بهذا الشكل، علماً أنّ مأخذه الأول على "المردة" من هذا الجانب يبقى كونه حوّل، من حيث يدري أو لا يدري، خلافاً سنياً-سنياً في الحكومة، إلى خلاف سنّي-مسيحي وهو ما لا يشكّل مصلحة لأحد.

الوحدة المهدَّدة...

بمُعزَلٍ عن الخلافات المستمرّة بين الأفرقاء المسيحيين، والتي تبقى عامل غنى من حيث المبدأ، يبقى الأكيد أنّه يمكن لـ"لقاء بكركي" أن يكون كغيره من اللقاءات التي سبقته، مجرد لقاء آنيّ ابن ساعته، لن يصمد طويلاً قبل أن يسقط في أول امتحانٍ يواجهه، كما يمكن أن يؤسّس لمقاربةٍ جديدةٍ، مقاربة لا تأسر المسيحيّين وتذوّبهم ببعضهم بعضاً، ولكنّها تحفظ شيئاً من الاحترام المتبادل فيما بينهم.

ولأنّ البطريرك الراعي استهلّ اللقاء بالقول إنّ "الوحدة اللبنانيّة مهدّدة"، فإنّ الرسالة منه واضحة، وهي الاتحاد لمواجهة التهديد، اتحادٌ يريد الراعي من المسيحيين أن يبادروا إليه، على أن تلتحق بهم سائر القوى، اتحادٌ "نظري" يبقى هو الفيصل في الحكم على اللقاء بالنجاح أو الفشل، بعد وقتٍ قد لا يكون طويلاً...