أمّا وقد إنتهت القمّة العربيّة، وما رافقها من مُحاولات محلّية وإقليميّة لتفشيلها، في مُقابل مُحاولات محليّة وإقليميّة أيضًا لإنجاحها، وبغضّ النظر عن القرارات التي خرجت بها هذه القمّة، وعن الإشكاليّات التي رافقت تراجع مُستوى التمثيل،ومسألة الحُضور الليبي، وموضوع دعوة الجانب السوريّ، وملفّ النازحين السُوريّين في لبنان، وغيرها من المواضيع، من المُرتقب أن يعود الإهتمام اللبناني في الأيّام القليلة المُقبلة إلى الوضع الداخلي عُمومًا، وإلى الملفّ الحُكومي بالتحديد. والتحرّك المُرتقب هذه المرّة سيكون من جانب رئيس الحكومة المُكلّف ​سعد الحريري​، بعد إستنفاد التحرّكات التي قام بها وزير الخارجية في حُكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​ من جهة، وبعد طيّ صفحة المُبادرة التي لعب مُدير عام الأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم دورًا أساسيًا فيها من جهة أخرى. فما هي المعلومات في هذا الصدد؟.

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ إتصالات الأسابيع القليلة الماضية أظهرت وُجود جبهتين غير مُعلنتين في ما خصّ الملفّ الحُكومي: الجبهة الأولى تُحاول تحميل رئيس الحكومة المُكلّف مسؤوليّة التعثّر المُستمرّ على صعيد تشكيل الحُكومة باعتبار أنّه يرفض التنازل عن مقعد سنّي من حصّته، لصالح تمثيل "​اللقاء التشاوري​"، وبالتالي يرفض التقيّد بما أفرزته نتائج الإنتخابات النيابيّة الأخيرة من نتائج، لجهة بُروز جهات سياسيّة خارج "تيّار المُستقبل" على الساحة السُنيّة، بغضّ النظر عن حجم ونسبة تمثيلها ضُمن طائفتها. الجبهة الثانية تُحاول تحميل رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" الوزير باسيل مسؤوليّة التعثّر المذكور، باعتبار أنّه يقف شخصيًا وراء رفض التنازل عن الوزير السنّي الذي جرى تجييره إلى حصّة رئيس الجمهوريّة العماد ​ميشال عون​، في مُقابل تنازل هذا الأخير عن وزير ماروني لصالح "تيّار المُستقبل".

وليس بسرّ أنّ "​حزب الله​" يسعى لحصر مسؤولية الفشل في تشكيل الحُكومة حتى تاريخه، برئيس "تيّار المُستقبل"، بحجّة أنّ الحريري يرفض الإعتراف بالثنائيّة السياسيّة التي أظهرتها نتائج الإنتخابات على الساحة السنّية، ويؤكّد في مواقفه العلنيّة أنّه لا يُعارض إطلاقًا حُصول كل من "التيّار الوطني الحُرّ" ورئيس الجمهوريّة حصّة وزاريّة تتكوّن من 11 وزيرًا، في حُكومة ثلاثينيّة. والمُفارقة اللافتة أنّ مواقف حلفاء "الحزب"، ومنها مواقف "تيّار ​المردة​" وبعض نوّاب "اللقاء التشاوري" على سبيل المثال لا الحصر، تُحمّل "التيّار البرتقالي" المسؤولية، وتعتبر أنّ التنازل عن وزير واحد من حصّته لصالح "اللقاء التشاوري" كفيل بحلّ الأزمة. وبحسب خُصوم "حزب الله" على الساحة اللبنانيّة، فإنّ "الثنائي الشيعي" يقف وراء رفض منح "التيّار" والرئيس أغلبيّة الثلث زائد واحد، وأنّ المواقف المُغايرة التي يُعبّر عنها "الحزب" إعلاميًا، تدخل في سياق التوزيع المدروس للأدوار، منعًا لأي خلاف مُباشر مع الرئيس العماد ميشال عون. وسبب هذا الرفض-برأي هؤلاء، يعود إلى أنّ أيأغلبيّة عدديّة على طاولة مجلس الوزراء بيد جهة سياسيّة واحدة، قادرة على تشكيل قُوّة سياسيّة فعّالة على مُستوى السُلطة التنفيذيّة، وهذا ما لا يُمكن منحه لأي طرف، وبالأخصّللجانب المسيحي، مع التذكير بأنّ هذه السُلطات التنفيذيّة للمسيحيّين هي محط رفض ضمنيّ من قبل العديد من الجهات السياسيّة الإسلاميّة، وكانت صفحته قد طُويت بعد إقرار "​إتفاق الطائف​" عندما جرى سحب العديد من السُلطات والصلاحيّات من يد رئيس الجُمهوريّة الماروني، لصالح مجلس الوزراء مُجتمعًا-أقلّه نظريًا. إلى ذلك، من المُتوقّع أن يكون عُمر الحُكومة المُقبلة مديدًا، حيث أنّ الرؤية ضبابيّة بالنسبة إلى ما إذا كانت الإنتخابات النيابيّة المُقرّرة في ربيعالعام 2022 ستجري في موعدها، والأمر نفسه بالنسبة إلى الإنتخابات الرئاسيّة المقبلة في العام نفسه بعد بضعة أشهر على الإنتخابات النيابيّة المُفترضة، وبالتالي، تحرص كل الأطراف على أن يكون حُضورها السياسي على طاولة مجلس الوزراء، قويًا وفعّالاً قدر المُستطاع، نظرًا إلى أهميّة الأدوار السياسيّة التي ستُناط مبدئيًا بالحُكومة المُقبلة.

وسط هذه الأجواء، من المُنتظر أن يتحرّك رئيس الحُكومة المكلّف في الأيّام المُقبلة، على أكثر من خطّ سياسي داخلي وخارجي، لكسر الجُمود الحالي القاتل على مُستوى الملفّ الحُكومي. وعلى الرغم أنّ من غير المُنتظر أن يوافق الحريري على التنازل عن وزير سُنّي من حصّته، فإنّه سيسعى لتأمين ضُغوطات مُتعدّدة الأقطاب على مُختلف المعنيّين بالملفّ الحُكومي، على أمل أن يتمّ تقديم التنازلات المُتبادلة المطلوبة، تمهيدًا لتشكيل الحُكومة، منعًا لإستفحال التدهور الحالي على غير صعيد. واللافت أنّ رئيس الحريري يحرص على المُبالغة في الإضاءة على التفاهم القائم بين "تيّار المُستقبل" من جهة و"التيّار الوطني الحُرّ" من جهة أخرى، للإلتفاف إستباقيًا على مُحاولات دقّ إسفين الخلاف بينهما من قبل أكثر من جهة، مع تشديده على عدم الفصل بين العهد والحكومة، في مُحاولة واضحة لأن تتجه ضُغوط "التيّار الوطني الحُرّ" لتشكيل الحُكومة بعيدًا عن "تيّار المُستقبل".

وعلى الرغم من أنّه حتى هذه اللحظة لا تُوجد أي مؤشّرات إيجابيّة بشأن التحرّك السياسي المُتوقّع من جانب رئيس الحُكومة، إلا أنّ الأمل يبقى قائمًا أن تُشكّل المشاكل الضاغطة على الجميع من دون إستثناء، عاملًا مُحفّزًا لمُختلف الأطراف لتقديم تنازلات يُمكن أن تكسر الجمود الحالي القاتل. فهل سيتحوّل تحرّك الحريري المُنتظر إلى مُبادرة جديدةيُمكن أن تبصر النور قريبًا بشأن الملفّ الحُكومي، أم أنّ الأمور ستبقى عالقة في خانة العناد المُتبادل؟!.