بإمكاننا اختصار العهد الجديد بجَبلَين: جبل التّطويبات وجبل الجُلجلة. على الجبل الأوّل قدَّم يسوع التّعليم الأكثر ثوريَةً في تاريخ البشرية. التّعليم الذي قلب المقاييس: التّطويبات. وعلى الجبل الثاني، جبل الجُلجُلة، حَقَّق يسوع بالفعل ما علّمه وأوصى به تلاميذه، فبذَل حياته مائتاً على الصّليب، لكي لا يموت الإنسان، بل يحيا ​الحياة​ وافِرة(يو10: 10).

في اليوم الذي قدَّم فيه يسوع التّطويبات، وَقّع على صكّ موته، لأن طريقها بعكس طريق ​العالم​، وهذا الطّريق يستجِرّ الكثير من الأعداء، الذين يُبغضون التقوى والصَلاح(2 طيم 4: 3)، ولا يروقهم الصّدق ولا الإستقامة ولا النزاهة، ولا تسلّط الحقيقةلأنهاتُبَكّت سلطانهم، بل البّاطل والزّور والعَماء؛ فعندما يختار الإنسان اتّباع الله، يكثُر المُتربّصون بِه والمُتحاملون عليه، ومُبغضوه ومُتهّموه زيفاً وجوراً، ويُضحي غير محبوب من أقربهم إليه ومن النّاس؛ فالنّاس يُحبّون مَن يُسمِعهُم "وَفْقَ شَهَواتِهِم، واهْتِيَاجِ سَمْعِهِم"(2طيم5: 3)، أي بحسب ما يُريدون أن يَسمَعوا، وأن يُعمَل لَهم. إلاّ أن الأمر، بالنسبة ل​إنجيل​ الخلاص، لا يقبل أنصاف الحقائق أو أنصاف الحلول، ولا يحتمل بالتالي، تدوير الزّوايا على حِساب الحقيقة التي تُحَرّر، فالحقيقة هي الحقيقة والتلاعب بِها لا يُخلّص الإنسان:"الحَقَّ الحقّ أقول لكم..."(يو6: 47)، ولا شيء غير الحقّ.

في عظته على الجبل الأول أخذ يسوع عبارات: الوداعة والحزن والرّحمة والسّلام(متى53-11)، والقتل(متى521-22)، والثأر(متى523-26)، و​الجنس​(متى527-30)، والمحبّة(متى543-48)، والصّدقة(متى61-4)، والصّلاة والصّوم(متى65-18)، وقلبها رأساً على عقِب مُغيّراً معناها: فَعِوض السلام المُزيّف والهشّ القائم على الخوف من الآخر، والمُحَقّ بقوّة السّلاح والرّدع العَسكريَين، نادى يسوع بالسّلام القائم على المحبّة و​العدل​ والحقّ مع الله والقريب. وعِوض الجنس الذي يستهلِك الإنسان، نادى يسوع بنقاوة القلب وطهارة العين: "فمَن نَظر إلى امرأةٍ واشتَهَاها في قَلبِه فقد زَنَى بها في قلبِه"(متى5: 28)؛ فالقلب هو مركز الأفكار الشّريرة والطّاهرة. وعِوضَ القساوة، نادى يسوع بالرّحمة أي بالشّفقة التي تتألّم مع الآخرين ومن أجل الآخرين: "طُوبَى للرُّحَمَاء، فإنُّهُم يُرحَمون" (متى5: 7). وإلى السّاعين إلى الشّعبوية، المُتخَلّين عن إيمانهم، وطالبي رِضى العالم، قال: "طوبى للمُضطهدين من أجل البرّ" (متى5: 10). وإلى القائلين: "كُل واشرب فإنّك غداً تموت"، قال: "أطلبوا ملكوت الله وبرّه والباقي يُعطى لكم ويُزاد"(متى 6: 33). وإلى الحَاقدين المُبغِضين والرّاغبين في الإقتصاص والثأر والمُطالبين بالإعدام راحةً لقلوبهم الجريحة، دعا يسوع إلى المَغفرة، أُسوةً به، وبالآب السّماوي الذي صالَح البشرية به، على الصّليب، وقال: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُم، وصَلُّوا مِنْ أَجْلِ مُضْطَهِدِيكُم، لِتَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَاوَات"(متى5: 44). وقال: "لا تُقَاوِمُوا الشرِّير، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلى خَدِّكَ الأَيْمَن، فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيضًا"(متى5: 39).

وفي كلامه على الجبل الثاني، حقّق يسوع بالفعل كلّ ما قاله على الجبل الأوّل، فقاوم مُقاومة المحبّة الرّحيمة، رافضاً ​العنف​ رفضاً قاطِعاً، وبالتالي مُقاومة الشّرير بالعنف(متى26: 52)، قابلاً الألم والموت بوداعة الحُملان المُساقَة إلى الذّبح، من دون أن يفتح فاه(أش 53: 7)، غافراً لِصالبيه سوء صنيعِهم(لو23: 34)، مُشَرِّعاً أبواب الملكوت على مصراعيها للخطأة التائبين (لو23: 42).

مَن يَقبل حضارة الجبلَين؟ يُجيب يوحنا الإنجيلي على هذا السؤال بقوله: إنّهم المؤمنون باسمِه الذين أعطاهُم سُلطاناً أن يصيروا أبناء الله. "هُم الَّذين وُلِدوا، لا مِنْ دَمٍ، ولا مِنْ رَغْبَةِ جَسَد، ولا مِنْ مَشيئةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ وُلِدُوا" (يو1: 12- 13).