مقتضبة وسريعة جاءت رسائل الأمين العام لـ"​حزب الله​" ​السيد حسن نصر الله​ في حوار الثلاث ساعات الذي أجراه مساء السبت، والذي لم يستحوذ فيه الملفّ اللبناني على أكثر من دقائق معدودات في الوقت المستقطَع، المُضاف أصلاً إلى مدّة المقابلة المحدّدة مسبقاً.

مع ذلك، انطوت هذه الرسائل على مفارقات عدّة، كمنت خلفها رسائل أراد نصر الله إيصالها إلى من يهمّه الأمر، غلّفها بهدوءٍ توقف عنده كثيرون، معطوفاً على "إيجابيّة" إزاء الحلفاء، وفي مقدّمهم "​التيار الوطني الحر​"، ولكن أيضاً الخصوم، على غرار رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​.

فما هو فحوى رسائل نصر الله الداخلية؟ وأيّ دلالاتٍ ومعانٍ حملتها على أكثر من صعيد؟ وكيف تلقّفتها القوى السياسية المختلفة، في الشكل والمضمون، وبإيجابياتها وسلبيّاتها؟!

ارتياحٌ ولكن...

مع أنّ الملفّ اللبناني لم يأخذ أكثر من حيّز بسيط من الحوار التلفزيوني للأمين العام لـ"حزب الله"، إلا أنّه استطاع أن يحصد اهتمام مختلف القوى السياسية اللبنانية، التي كانت تترقّبه، اعتقاداً منها أنّه قد يرسم بين طيّاته خريطة المرحلة المقبلة، في ظلّ الأزمات التي تحدق بلبنان، مع استفحال الأزمة الحكومية، معطوفة على الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن همّ الفساد الذي يؤرق الجميع.

وإذا كان الهدوء الذي طبع مقاربة نصر الله للملفّ اللبناني أتى معبّراً، خصوصاً أنّه لم يُرصَد في باقي محاور المقابلة المطوّلة، فإنّ أكثر ما توقّف عنده المراقبون كمن في الرسائل "الإيجابية" التي وجّهها إلى رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، متنصّلاً بشكلٍ أو بآخر من أيّ هجومٍ عليه، معتبراً أنّه "يدوّر الزوايا"، فضلاً عن حديثه عن "جهود جدية" تُبذَل في سبيل تأليف الحكومة.

وفي وقتٍ سجّل "​تيار المستقبل​" ارتياحه العام لهذه المواقف، وإن حافظ على "حذره" إزاءها، باعتبار أنّ هذه الإيجابية لم تترجَم عملياً بأيّ موقفٍ مسهّلٍ للتأليف، أقلّه عن طريق ضغط "حزب الله" على حلفائه للكفّ عن التعطيل والعرقلة، فإنّ "التيار الوطني الحر" بدا من جهته، من أكثر المرتاحين لجوّ المقابلة، خصوصاً أنّ نصر الله نجح خلالها في إعادة ترميم العلاقة الثنائية بين الجانبين، التي تراجعت إلى حدّ بعيد في الآونة الأخيرة، أقلّه على المستوى الشعبي، في ظلّ الحروب "الافتراضية" التي خاضها الطرفان في أكثر من مناسبة، علماً أنّ العديد من قيادات "التيار" حرصت قبل وبعد المقابلة، على تأكيد أنّ العلاقة مستمرّة قطعاً بين الجانبين، وإن احتاجت إلى إعادة تقييم ومراجعة.

وإذا كان توصيف نصر الله لوزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​ بـ"الصديق" أراح قواعد "التيار" بشكلٍ كبيرٍ، خصوصاً بعد اعتبارها أنّ "ظلماً" لحق بالرجل من البيئة الحاضنة للحزب، فإنّ العديد من المواقف التي أطلقها الرجل بدت مطمئنة لـ"التيار" أيضاً، سواء لجهة موقفه من القمّة العربيّة الاقتصاديّة التي عقدت في بيروت أخيراً، والتي لم يصوّب نصر الله سهامه عليها كما فعل غيره من المقرّبين منه، أو لجهة تأكيده مرّة أخرى رفضه المثالثة التي يتّهمه كثيرون بالسعي إليها، وتمسّكه ب​اتفاق الطائف​، لدرجة اشتراط "الإجماع اللبناني" لتطوير أيّ بند من بنوده، وهي نقطةٌ تُسجَّل له، خصوصاً أنّ دعوته السابقة إلى "مؤتمر تأسيسي" لا تزال حاضرة في الأذهان.

ملاحظات وتحفّظات

لكن، وفي مقابل الإيجابيّات الكامنة خلف الهدوء والاعتدال اللذين طبعا كلام نصر الله في شقّه اللبنانيّ، ثمّة من قرأ خلف الرسائل، مؤشراتٍ تدعو إلى "القلق"، إن لم تكن "سلبيّة" بالمُطلَق، بل اعتبر أنّ الإيجابيّة التي حاول الرجل ضخّها، لم تكن أكثر من "مسكّنات" للتغطية على واقع الحال الذي لا يبدو "مبشّراً".

ولعلّ التحفظ الأول الذي سُجّل على الأمين العام لـ"حزب الله" لبنانياً، لم يكن تركيزه على مقارعة ​إسرائيل​ في الساحتين اللبنانيّة أو السوريّة، واستمراره في نهج انتقاد بعض الدول العربيّة، والخليجيّة خصوصاً، بقدر ما كان "تهميش" الملف اللبنانيّ الذي كاد يغيب بشكلٍ كاملٍ عن المشهد، في مفارقةٍ بدت غريبة، بمُعزَلٍ عمّا إذا كان يتحمّل مسؤوليتها مباشرة أم لا، لأنّها جعلته يظهر، برأي بعض خصومه، لا كزعيم لبناني مؤثّر، وإنما كمسؤول إيراني ربما، صودف وجوده في لبنان.

وإذا كان البعض سجّل على نصر الله تحفّظاتٍ مكرّرة تتعلق بمصادرة قرار الحرب والسلم وما شابه ذلك، وإن كرّر خلال المقابلة أنه لا يريد الحرب ولكنّه مستعدٌ لها، فإنّ كثيرين اعتبروا أنّ "الإيجابيّة" التي قارب من خلالها الملفّ الحكوميّ بقيت "بلا بركة". فصحيح أنّ الرجل لم يرفع السقف كما فعل في خطابه الأخير الذي تناول فيه أزمة تمثيل سنّة "​اللقاء التشاوري​"، إلا أنّه لم يقدّم شيئاً لرئيس الحكومة المكلّف يمكن البناء عليه، مكتفياً بـ"الدعاء" وكأنّه مجرّد متفرّج، وليس أحد الفاعلين الأساسيين على خط الأزمة التي يتّهمه كثيرون بالوقوف وراءها.

وفي حين رأى كثيرون أنّ كلام نصر الله "الإيجابيّ" قد لا يكون أكثر من محاولة لثني الحريري عن أيّ "مغامرة" قد يذهب إليها، وهو ما أوحت به التسريبات عن إمكانية اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة والانتقال إلى المعارضة، في ضوء إعلانه أنه "سيحسم موقفه" هذا الأسبوع، حصد المحور الخاص بآليّات ​مكافحة الفساد​ انتقاداتٍ بالجملة، من حلفاء "حزب الله" قبل خصومه. وقد اعتبر هؤلاء أنّ موقف نصر الله في هذا الإطار أتى "ضعيفاً"، خصوصاً حين ربط قضيّة بهذا الحجم بإصدار تشريعات وقوانين، في وقتٍ هناك العديد من القوانين والتشريعات الموجودة أصلاً، والتي لا تُطبَّق، فضلاً عن وجود مشكلة في النظام الديمقراطي الذي يمنع المحاسبة والمساءلة، في ظلّ حكومات الوحدة الوطنية المتعاقبة، ما يجعل مسألة مكافحة الفساد مجرّد شمّاعة لا تتخطى الشعارات، مرّة أخرى.

"دخيل" على الساحة؟!

لا شكّ أنّ الأمين العام لـ"حزب الله" حرص في مقابلته التلفزيونيّة، على توجيه الرسائل إلى المسؤولين الإسرائيليّين في المقام الأول، خصوصاً بعد ما اعتبرها "إنجازات وهمية" حاول الإسرائيليّون نسبها لأنفسهم، من خلال عملية "درع الشمال" التي جاءت متأخّرة أصلاً.

وإذا كانت التحركات الإسرائيليّة الأخيرة هي التي دفعت الرجل إلى "كسر الصمت"، قبل إطلالاته المتعدّدة المنتظرة الشهر المقبل، فإنّ الأكيد أنّه حاول إقامة "توازن"، لا من أجل الدخول في حربٍ جديدة، بل لمنعها في المقام الأول.

ولكن، أبعد من ملفات الردع وما يحيط بها، كانت الرسائل الداخليّة، على اقتضابها، أكثر من مهمّة، أهميّة بقيت منقوصة برأي البعض، بانتظار ترجمة الإيجابيّة حكومياً على سبيل المثال، أو إطلاق مسار مكافحة الفساد عملياً لا شعاراتياً، حتى لا يُقال إنّ "حزب الله" مجرّد "دخيل" على الساحة اللبنانيّة، يكتفي بالتنظير من بعيد، لا أكثر ولا أقلّ...