من المُتوقّع أنّ تمرّ الساعات والأيّام القليلة المُقبلة ببطء بعد رفع العديد من القوى الأساسيّة سقف توقّعاتها بالنسبة إلى المسار الذي ستسلكه عمليّة تشكيل الحُكومة المُتعثّرة منذ نحو تسعة أشهر حتى تاريخه. فما هي المعلومات في هذا الصدد حتى الساعة؟ وما هي التوقّعات على خط التأليف ونقيضه، أي إحتمال إعتذار رئيس الحُكومة المُكلّف ​سعد الحريري​؟.

بداية لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ سبب اللغط الدائر حاليًا بشأن العراقيل التي لا تزال تقف بوجه تسهيل عملية تشكيل ​الحكومة​، لجهة الضياع بين مُشكلة تمثيل نوّاب "​اللقاء التشاوري​" من جهة ومُشكلة إعادة توزيع بعض الحقائب الوزاريّة من جهة أخرى، يعود إلى تسويق إقتراح حلّ جدّي مَبنيّ على الدمج بين هاتين العقبتين! بمعنى آخر، عُلم أنّ الحديث عن الليُونة النسبيّة التي أظهرها "التيّار الوطني الحُرّ" لجهة إمكان التنازل عن المقعد الوزاري رقم 11 من ضُمن حصّته المُحتسبة مع حصّة رئيس الجُمهوريّة العماد ميشال عون، مَشروطة بتبديل بعض الوزارات التي جرى تجاهلها في بداية مُشاورات التشكيل إلى درجة أنّها لم تُصنّف لا سياديّة، ولا خدماتيّة أساسيّة. أمّا اليوم، فقد تبدّلت النظرة إلى هذه الوزارات التي كانت مُصنّفة ثانويّة، ومنها مثلاً وزارة ​البيئة​ التي كانت تُعتبر وزارة مُثيرة للمَشاكل بسبب ميزانيّتها المحدودة في مُقابل المهمّات الجسام المُلقاة على عاتقها لمعالجة مشاكل ​لبنان​ البيئيّة التي لا تُعدّ ولا تُحصى، بدءًا بعدم توفّر الحُلول المُستدامة لمُشكلة ​النفايات​، مُرورًا بالتلوّث اللاحق بالعديد من الأنهر والينابيع، وُصولاً إلى العجز عن حماية الغابات والبيئة عُمومًا أمام المدّ العُمراني المُخيف في ظلّ غياب التخطيط وأمام الكسّارات التي تعمل بعشوائيّة مُطلقة حتى تلك المُرخصّة منها. وسبب المُطالبة الحالية بالبيئة بعد إهمالها في السابق، وحتى بعد رفض بعض الأطراف الحُصول عليها بالمُطلق-كما فعل "الحزب التقدّمي الإشتراكي" عندما وافق على أن يتمثّل في الحُكومة بوزيرين بدلاً من ثلاثة، يعود إلى مبالغ كبيرة جرى رصدها خلال مؤتمر "سادر" لصالح مشاريع بيئيّة مُنتجة، لمُساعدة لبنان على حلّ أزماته في هذا المجال. وبالتالي، يُنتظر أن يستفيد الوزير الذي سيشغل ​وزارة البيئة​ من مُساعدات ماليّة مُهمّة ستُخوّله-إن أحسن التصرّف، حلّ مُشكلة رفع النفايات في لبنان، والشروع في مُعالجة جزء من المشاكل البيئيّة الكثيرة. والتراشق الإعلامي الذي دار أخيرًا بين كلّ من "​حركة أمل​" من جهة، و"التيّار الوطني الحُرّ" من جهة أخرى، يعود في جزء منه إلى مُطالبة "التيّار" بوزارة البيئة، ورفض "أمل" التنازل عنها.

وفي كلّ الأحوال، جرت أكثر من مُحاولة في الأيّام القليلة الماضية، لسحب إحدى الوزارات من يد إحدى الجهات الثلاث، أي كلّ من "​الحزب التقدمي الإشتراكي​" (نال من حيث المبدأ وزارتي ​الصناعة​ والتربية) وحزب "​القوات​ اللبنانيّة" (نال من حيث المبدأ وزارات العمل والشؤون الإجتماعيّة والثقافة إضافة إلى منصب نائب رئيس الحكومة ووزارة دولة)، و"تيّار ​المردة​" (نال من حيث المبدأ ​وزارة الأشغال​)، لتكون بمثابة جائزة ترضية للتيّار الوطني الحُرّ، في مُقابل تنازله عن أحد المقاعد الوزاريّة لصالح "اللقاء التشاوري"على أن يبقى الوزير المعني ضُمن حصّة رئيس الجُمهوريّة، لكنّ هذه المُحاولات فشلت كلّها، بسبب إصرار مُختلف الأفرقاء السياسيّين على الإحتفاظ بحُصصهم، ورفضهم مُبادلتها بأي وزارة جديدة، مثل ​وزارة الإعلام​ أو ما شابه من الوزارات التي لا ميزانيّات تُذكر لها، غير تلك المُخصّصة لدفع رواتب المُوظّفين والمُتعاقدين!.

وسط هذه الأجواء، وإذا كانت الأوساط السياسيّة الأكثر تفاؤلاً تتحدّث منذ اليوم عن صراعات مُحتدمة ستشهدها الحُكومة المُقبلة بين أكثر من فريق وجهة، حتى لو نجحت الجُهود الحالية في تذليل العقبات المُتبقّية، فإنّ الأوساط السياسيّة المُتشائمة تُحذّر من عواقب أيّ تأخير إضافي على خطّ تشكيل الحُكومة، لأنّ المسألة لم تعد محصورة بصراع بين محورين سياسيّين إقليميّين عريضين، ولا بصراع سياسي داخلي على النُفوذ في السُلطة، بل صارت مُرتبطة بالإستقرار الإقتصادي والمعيشي والحياتي لشعب كامل. وبالتالي، إنّ ​تشكيل الحكومة​، على الرغم من كل التناقضات والصراعات داخلها، وعلى الرغم من عدم العمل كفريق وزاري مُوحّد بل كأفرقاء حزبيّين متنافسين حتى على مُستوى الوزارات والخدمة العامة، يبقى أفضل بكثير من المُضيّ قُدمًا في هذا الوضع الشاذ.

أمّا في حال تعثّر الجُهود الحاليّة لتذليل العقبات أمام تشكيل الحُكومة، فإنّ كل الخيارات التي يُحكى عنها سيّئة. وفي هذا السياق، في حال قام رئيس الحُكومة المُكلف بعرض تشكيلة وزارية على رئيس الجُمهورية، من دون الحُصول مُسبقًا على الغطاء السياسي لها، سيتسبّب تلقائيًا بسُقوطها في مجلس النوّاب-هذا إذا سلّمنا جدلاً أنّ ​الرئيس ميشال عون​ سيُوافق على إحالتها على المجلس أصلا. ورئيس الحُكومة المُكلّف يُدرك تمامًا أنّ هذا الخيار الذي يدخل في صلب سُلطاته الدُستوريّة، يعني عمليًا تقديم خدمة مجانيّة لخُصومه لإخراجه من الحُكم. وهو بالتالي لن يُقدم عليه، كما أنّه لن يُقدم على الإعتذار عن مُتابعة مُشاورات التأليف، لأنّه سيضع مصيره بيد خُصومه السياسيّين الذين يُلوّحون من اليوم بأنّ إقدام رئيس الحكومة المُكلّف على خيار الإعتذار قد يعني عدم تكليفه مُجدًدًا. وبين الحلول السيّئة يميل الحريري إلى إعادة تعويم الحُكومة المستقيلة، وهو الخيار الذي بات يلقى تأييدًا واسعًا، في ظلّ إستمرار رفض الرئيس و"التيّار الوطني الحُرّ" له.

وأمام إنسداد أفق الضُغوط يبقى التلويح بالتصعيد الإعلامي، وبتسمية الأمور بأسمائها لشرح الواقع أمام الرأي العام، لكنّ حتى هذا الخيار مشكوك بفعاليّته، كون الجهات التي تُلوّح به مُتعدّدة، بدءًا من "التيّار الوطني الحُرّ" مرورًا بتيّار "المُستقبل" وُصولاً إلى جهات سياسيّة فاعلة أخرى، بشكل يُوحي أنّ كل طرف يلوم الآخرين على ما يحصل من فشل في تأمين إستعادة ​الدورة​ الطبيعيّة للسُلطة السياسيّة في لبنان. وفي كل الأحوال، أيّام قليلة ويظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود، علمًا أنّ دائرة الإحباط الشعبي تتسع بصمت وبغضب مكبوت وبلوم غير مُعلن يطال العديد من الأطراف في آن واحد.