بين ​لبنان​ و​فرنسا​ مسافة جغرافية مقبولة، ولكن الروابط التي تحكم العلاقة بين البلدين استثنائية وقديمة وغالباً ما كانت فرنسا "تمون" على لبنان بعد ان اطلق عليها لقب "الام الحنون". محطّات كثيرة شهدها ​تاريخ لبنان​ كان لفرنسا فيها دور اساسي في الوصول الى حلول ليكمل مسيرته، بغض النظر عما اذا كانت هذه الحلول تصبّ دائماً في مصلحته ام لا، الا انها كانت تؤدي الغرض منها بتفاهم اقليمي-دولي.

اليوم، وفي ظل المعضلة الحكومية المستفحلة، كانت الاراضي الفرنسية مسرحاً للقاءات ونقاشات لبنانية- لبنانية حول تشكيل ​الحكومة​، وسُجّل امتعاض من البعض حول حصول هذه اللقاءات في فرنسا وليس في لبنان. وفي الواقع، من المستغرب فعلاً كيفية انتقال رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ من لبنان الى فرنسا في "زيارة خاصة" ليجري هناك مشاورات ولقاءات حكومية، فهل وصلت الامور الى نقطة اللارجوع، ما استوجب الوصول الى مخرج برعاية فرنسية؟.

لا بد من الوقوف عند عاملين اساسيين: الاول ان مناخ فرنسا مغاير لمناخ لبنان من حيث الضغوط والتشنّج، وعليه فإنّ الكلام هناك يكون تحت غطاء دولة كبرى معنية بالازمة اللبنانية بشكل مباشر، وقد يشعر المعنيون انهم "محميّون" ولا حاجة بهم لرفع السقف عالياً لارضاء احد اكان داخل لبنان ام خارجه. وبالتالي، فإن الغطاء الفرنسي شكّل ما يشبه العازل للضغوط التي يمكن ان تكون قد مورست على المعنيين بالتشكيل، فيما عملت فرنسا بالتوازي، على استغلال شبكة اتصالاتها الدولية من اجل توفير قاسم مشترك يؤدي الى اقامة "مظلة حكومية" على غرار "المظلة الامنية" القائمة منذ سنوات والتي لا تزال تتمتع بصحة جيدة. ووفق آخر المعطيات، فإن هذه ​الاتصالات​ نجحت من خلال الكلام الذي ساد في الساعات القليلة الماضية على لسان اكثر من مسؤول وزعيم لبناني التزم عدم التصعيد وارساء اجواء ايجابية، فغابت لغة التصعيد والتحدي والقاء اللوم على الآخر، وسادت اجواء التفاؤل الحذر. واللافت انه تم الاستعاضة عن الافراط في التفاؤل كما كان يحصل سابقاً، بموجة من التحذيرات من مواقف وقرارات سيتم اتخذاها اذا فشل المسعى الحالي وطوى الاسبوع صفحة ايامه دون ان تبصر الحكومة النور، ما يؤشر الى جدية ما في الوصول الى حل بعد ان شعر الجميع بسخونة الموقف.

الامر الثاني الذي يجب التوقف عنده، هو المواقف الفرنسية التي صدرت في الايام القليلة الماضية، حيث سرت شائعات كثيرة عن الغاء الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ زيارته المرتقبة الى ​بيروت​ الشهر المقبل، معطوفة على ما زعمت صحيفة "معاريف" ال​اسرائيل​ية انه على لسان وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان لجهة توسط ​باريس​ لدى اسرائيل لعدم توجيه ضربة عسكرية للبنان قبل ​تشكيل الحكومة​... ليتبيّن بعدها ان كل ما صدر كان مجرد شائعات، من الممكن ان يكون هدفها اظهار الاستياء الفرنسي من الوضع السائد في لبنان، وعدم قدرتها على تحمّله، وان دخولها على الخط اصبح واقعاً ولم يعد ينتظر مراعاة الداخل اللبناني او الخارج، وارسال رسالة لمن يهمه الامر ان لبنان لا يزال مصلحة اساسية لفرنسا ولن تتخلى عنه بسهولة، وبالتالي لا يمكن اتخاذ قرار بحجم تهديد امنه او اقتصاده دون الرجوع اليها.

واذا بقيت الامور على الوتيرة التي تسير عليها، فإنّ النار الفرنسية تكون قد انضجت الطبخة الحكومية ولم تحرقها على غرار نيران اخرى داخلية او خارجية، ولا يكون الجهد الفرنسي لمساعدة لبنان اقتصادياً من خلال المؤتمرات التي نظمتها والاهتمام الذي أولته، قد ذهب سدى. وفي المقابل، سيكون من المهم معرفة الثمن الذي سيدفعه لبنان جراء التدخل الفرنسي، ولكنه بالتأكيد سيكون اقل بكثير من اثمان كان سيدفعها لدول اخرى. انها مسألة ايام فقط، ولا بد من الانتظار.