مع كل حُكومة جديدة في ​لبنان​، تخرج أصوات من الجهات الصديقة وتلك العدوّة على السواء، تُصنّفها ضمن هذا المحور أو ذاك، وتتهم أحزابًا ودولاً بالسيطرة عليها. ومع تشكيل الحُكومة الجديدة بالأمس القريب، بدأت تصدر مواقف داخليّة وإقليميّة تتحدّث عن سيطرة "​حزب الله​" عليها، وُصولاً حتى إلى الحديث عن سيطرة ​إيران​ عليها–حسبما زعم رئيس الحُكومة الإسرائيليّة ​بنيامين نتانياهو​. فهل هذا الأمر صحيح؟.

بداية، لا بُد من الإشارة إلى أنّ 10 وزراء من أصل 30 وزيرًا (من ضُمنهم رئيس الحُكومة) ينتمون إلى كلّ من "تيّار المُستقبل" وحزب "القوّات اللبنانيّة"، ما يعني أنّ ثُلث وزراء الحُكومة هم خارج أي تحالف مُحتمل إن مع إيران أو مع النظام السُوري الحالي، علمًا أنّ بعض خُصوم "المُستقبل" و"القوّات" يذهب حتى إلى إتهامهما بالتأثّر بسياسات إقليميّة ودَوليّة مُناهضة تمامًا لإيران، ويضعانهما أيضًا ضُمن أحلاف مناقضة، منها سعودي ومنها أميركي وغيرها! وبالنسبة إلى حصّة وزراء كل من "رئيس الجُمهوريّة" و"التيّار الوطني الحُرّ"–وبغضّ النظر عن وجهة التصويت النهائيّة لوزير أو لوزيرين من ضُمنها، فهي تصبّ في أغلب الأوقات في خانة وسطيّة تُحاول مُراعاة أكثر من طرف في آن واحد، علمًا أنّ "التيّار" يرفض كل أنواع الإتهامات التي تُلاحقه والتي تنسبه إلى محور دون سواه، ويُصرّ على أنّ إنتماءه هو ل​لبنان القوي​ والمُستقلّ فقط لا غير. وفي كل الأحوال، إنّ حجم وزراء "حزب الله" ومعه كل الوزراء المُصنّفين في خانة قوى "8 آذار" فعليًا، لا يبلغ ثلث أعضاء الحُكومة، وهو يرتفع إلى 18 وزيرا في حال تصنيف كل وزراء "التيّار" والرئيس إلى جانبه.

وفي النهاية، الأكيد أنّ المُمارسة السياسيّة الميدانيّة هي التي ستحكم على حُكومة لبنان، علمًا أنّ توازنات الحُكومة السابقة لم تكن مُختلفة كثيرًا عن توازنات الحُكومة الحاليّة، مع تسجيل تراجع عدديّ طفيف في تمثيل الجهات المحسوبة على قوى "​14 آذار​" السابقة، ما يعني أنّ الإتهامات الحاليّة غير واقعيّة، لأنّها كانت لتُترجم خلال فترة حُكم الحُكومة السابقة التي لا تختلف كثيرًا من حيث الشكل والمضمون عن الحُكومة الحالية، وكانت لتتظهّر خلال مُمارسة الحُكم، علمًا أنّ ما حدث في الماضي القريب، من البيان الوزاري السابق حتى تاريخ إنتهاء فترة حكم الحُكومة السابقة، أظهر غير ذلك، على الرغم من بعض التجاوزات الداخليّة لمبدأ ​النأي بالنفس​ ولتفاصيل بعض القرارات الدَوليّة. يُذكر أنّه ليس بسرّ أنّ رأي الجهات السياسيّة في لبنان إزاء القضايا الكبرى وتلك الإستراتيجيّة غير مُوحّد، وكل حزب أو تيّار أو طرف يتأثّر بتموضعاته الداخليّة وبتحالفاته الإقليميّة وبتفاهماته الدَوليّة، وبالتالي النُفوذ الإيراني حاضر إلى حدّ ما عبر بعض القوى السياسيّة، كما أنّ قوى أخرى تتماهى مع نُفوذ لقوى إقليميّة ودوليّة أخرى. وليس بسرّ أيضًا أنّ مواقف وزراء كل من رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ و"التيّار الوطني الحُرّ" على طاولة ​مجلس الوزراء​ ستُشكّل الإجابة الواضحة على كل الإتهامات التي تُلقى جزافًا بحقّ الحُكومة اللبنانيّة، لأنّ ثقل هؤلاء الوزراء كفيل بتثبيت الموقف اللبناني الحيادي، أو بميل كفّة الميزان لصالح هذا المحور أو ذاك.

وبحسب التوقّعات فإنّ التحالفات السياسيّة على طاولة مجلس الوزراء اللبناني ستكون مُتبدّلة جدًا بحسب الملفّات المطروحة بالنسبة إلى تسيير شؤون الدَولة والحُكم والشؤون الإقتصاديّة والماليّة والحياتيّة، إلخ. حيث من المُتوقّع أن نشهد تحالفات "على القطعة" –إذا جاز التعبير، تتجاوز الإصطفافات السياسيّة التقليديّة– إن الداخليّة منها أو الخارجيّة. أمّا بالنسبة إلى المواضيع الحسّاسة، مثل العلاقات الثُنائيّة بين لبنان و​سوريا​، والموقف من الحرب السُوريّة والنظام السوري، والموقف من الصراع الإقليمي بين إيران من جهة وبعض الدُول العربيّة الخليجيّة من جهة أخرى، وغيرها من الملفّات ذات البُعد الإستراتيجي، فهي مُرشّحة إلى أن تتسبّب بإنقسامات على مُستوى السُلطة التنفيذيّة، وكذلك بعمليّات "شد حبال" مُتبادلة لكن من دون أن يكون لأي طرف القُدرة على حسم خيارات الدولة في لبنان في إتجاه أو آخر، ما يُسقط عمليًا إتهامات سيطرة أي طرف أو جهة على الحُكومة اللبنانيّة–هذا إذا سلّمنا جدلاً أنّ كل الأطراف المُمثّلين في الحُكومة اللبنانيّة ينتمون إلى محاور مُتضاربة.

في الخُلاصة، إنّ المَوقف اللبناني لم يكن تاريخيًا مُوحّدًا إزاء القضايا الكُبرى، حيث أنّ التجاذبات كانت دائمًا حاضرة على الساحة اللبنانيّة الداخليّة منذ الإستقلال حتى اليوم، لكنّ الأكيد أنّ تهمة سُقوط الحُكومة اللبنانيّة بكاملها في يد محور كامل غير صحيحة، وهي أصلاً تهمة غير قابلة للتطبيق وفق التوازنات الداخليّة الحاليّة، بغضّ النظر عن تراجع نُفوذ بعض القُوى أو تقدّم نُفوذ قوى أخرى. والإتهامات الداخليّة بحقّ الحُكومة تدخل في سياق تصفية حسابات سياسيّة داخليّة وحزبيّة ضيّقة، بينما الإتهامات الخارجيّة تدخل في سياق لعبة المصالح والنُفوذ الإقليمي، والإتهامات الإسرائيليّة تدخل في سياق الصراع مع إيران ولعب إسرائيل دور الضحيّة ضُمن منطقة مُعادية لها.