قد لا يكون مصطلح "المعارضة من الداخل" جديداً على المتابع للسيّاسة اللبنانيّة، ولو بدا غريباً وغير مفهوم بالنسبة إلى الضالعين في علوم السياسة وفنونها بصورة عامة، حتى لو غلّفه البعض بعبارة "الخصوصيّة" التي تجعل التركيبة اللبنانيّة الهشّة "فريدة" من نوعها في المحيط والخليج.

ولأنّ "المكتوب يُقرَأ من عنوانه"، يبدو أنّ هذا المصطلح لن يغيب عن "حكومة العهد الأولى"، التي بدأت المنافسة بين مكوّناتها المتباينة إلى حدّ التناقض تطغى على "الاحتفالات" بتشكيلها، وهو ما توّج بالمؤتمرات الصحافيّة المتلاحقة التي شهدتها عطلة نهاية الأسبوع، واستعراض "البطولات" من هنا وهناك، حتى قبل أن تنطلق الحكومة فعلياً إلى "العمل".

ولعلّ الكلام العالي السقف الذي أطلقه رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ بعد الاجتماع الاستثنائي لكتلة "اللقاء الديمقراطي" كان الأكثر وضوحاً في هذا السياق. هاجم "البيك" الحكومة ورئيسها ومكوّناتها ومشاريعها، موزّعاً الاتهامات يميناً وشمالاً، لكنّه رفض الانسحاب منها ببساطة، مؤسّساً بذلك لـ "معارضةٍ من الداخل"، يعتقد كثيرون أنّها لن تبقى حكراً عليه...

"حملة" على "البيك"؟!

بقّ جنبلاط "البحصة"، بشكلٍ أو بآخر، بعدما كثرت التحليلات والتكهّنات في الأيام الماضية حول عدم رضاه عن التشكيلة الحكوميّة التي أبصرت النور الخميس الماضي. استدعى كتلته النيابية إلى اجتماع "استثنائي"، أطلق بعده مواقف بدت "مدويّة" بكلّ ما للكلمة من معنى.

بعيداً عن "شعرة معاوية" التي لطالما حرص "البيك" على تركها مع حلفائه وخصومه، توجّه بنقدٍ لاذعٍ ومباشرٍ إلى رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، ومن الباب الأكثر "حساسيّة" بالنسبة إليه، ​اتفاق الطائف​. لم يتردّد جنبلاط في اتهام الحريري، مباشرة ومواربة، بالتخلّي عن الطائف أو الطعن به، لصالح ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ ووزير الخارجية ​جبران باسيل​.

إن دلّت "صرخة" جنبلاط على شيء، فعلى تدهور العلاقة بينه وبين الحريري أكثر من أيّ وقتٍ مضى، بعدما كان البعض يتوقّع أن تعزّز الحكومة الحاليّة تحالفهما إلى جانب "​القوات اللبنانية​". لكن، لماذا ذهب جنبلاط إلى هذا الحدّ في هجومه على الحريري، من دون أن يحفظ خطاً للرجعة كما يُقال؟ وهل كان يدرك تداعيات مثل هذه "الثورة" على رئيس الحكومة، إن جاز التعبير؟.

يقول المطّلعون إنّ جنبلاط لم يفعل ما فعله سوى بعد شعوره بوجود "حملة غير بريئة" تُشنّ ضدّه، وأنّ الحريري ليس بعيداً عنها بأيّ شكلٍ من الأشكال. ويكفي للدلالة على ذلك أنّ جنبلاط الذي يحنّ إلى الدور الذي لطالما لعبه على مدى السنوات الماضية بوصفه "بيضة القبان"، سواء في ​مجلس النواب​ أو الحكومة، بات يشعر اليوم أنّه "مهمَّش" بقرار سياسيّ واضح ولا ليس فيه، وكأنّ المطلوب منه أن "يصدّق" على ما يقوله الآخرون، أو أن يكون "زيادة عدد" في الحكومة، لا أكثر ولا أقلّ.

التحدّي الأول

كثيرة هي الأسباب التي دفعت جنبلاط إلى قول ما قاله بحق الحريري وباسيل والحكومة ككلّ، منها ما أفصح عنه بصورة مباشرة، ومنها ما بدأ يتسرّب من هنا وهناك، حول عدم رضاه عن التركيبة الحكوميّة، وما قرأه من "رسائل" موجّهة إليه شخصياً من خلفها.

وفي حين اعتبر كثيرون أنّ رفض جنبلاط مقايضة حقيبة الصناعة من حصّته ب​وزارة الإعلام​ أو غيرها قد يكون "القشة التي قصمت ظهر البعير" مع الحريري، الذي لم يذكر "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ضمن قائمة القوى السياسيّة التي شكرها بعد تشكيل الحكومة، فإنّ الأسباب الحقيقية تتخطّى هذا البُعد برأي كثيرين، وهي تبدأ من "التسوية الدرزيّة" التي أتت عملياً على حسابه، وصولاً إلى بعض تفاصيل الحكومة، التي كمنت فيها "شياطين" بالجملة برأيه.

فـ"البيك" الذي لم يهضم بعد دعوة ​الشيخ نصر الدين الغريب​ لحضور ​القمة العربية الاقتصادية​ في ​بيروت​ الشهر الماضي، وجد أنّ "التسوية الدرزية" التي وافق عليها، بطلاً أو مُكرَهاً، لم تكن "تسوية" بالمعنى الحرفيّ للكلمة، بدليل أنّ الوزير "الوسطيّ" الذي اختاره رئيس الجمهورية هو "محسوبٌ" بشكلٍ مباشرٍ على رئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" ​طلال أرسلان​، بل تربطه قرابة مباشرة مع الشيخ الغريب. والأنكى، بالنسبة إلى "البيك"، كان إسناد حقيبة الدولة لشؤون النازحين إلى هذا الوزير، وهو ما عبّر عنه بصورة مباشرة بقوله إنّ "لونه سوري"، تماماً كإسناد حقيبة المهجّرين إلى "عوني" ملتزم، هو الوزير غسان عطا الله، وإن برّر رفضه له بكونه خاض ​الانتخابات النيابية​ في ​الشوف​ ورسب فيها.

عموماً، تتّجه الأنظار إلى "التحدي الأول" الذي يخوضه جنبلاط "المعارض" داخل الحكومة، والمتمثّل في ​البيان الوزاري​ للحكومة العتيدة، علماً أنّ ما "أغاظه" أكثر من كلّ ما سبق برأي البعض، كان تسمية الوزير الغريب في لجنة صياغة البيان الوزاري بطلبٍ من باسيل، ما شكّل "سابقة"، باعتبارها المرّة الأولى منذ ثلاثة عقود التي تضمّ هذه اللجنة في صفوفها وزيرين من طائفة الموحّدين ​الدروز​، على الرغم من حضور أرسلان في العديد من الحكومات السابقة.

وإذا كان معظم الأفرقاء حاولوا الإيحاء بأنّ صياغة البيان الوزاري لن تواجه أيّ صعوباتٍ، خصوصاً في ضوء التقارب بين باسيل والحريري الذي ذهب إلى حدّ الاعتقاد بأنّ البيان سيكون منجزاً خلال ساعات، فإنّ مؤشراتٍ عدّة تدلّ على أنّ جنبلاط تحديداً لن يسعى إلى "تيسير" المهمّة، وستكون لديه تحفّظاته ومطالبه في هذا المجال، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقة مع ​سوريا​، فضلاً عن الشقّ المتعلّق ب​النازحين السوريين​ وعودتهم إلى بلادهم، فضلاً عن الملف الاقتصادي، والشق المتعلق ب​الكهرباء​ بصورة خاصة.

وفي هذا السياق، تشير بعض المعلومات إلى أنّ "القوات اللبنانية" قد تصطفّ إلى جانب "البيك" في رفضها التصديق على البيان كيفما كان، ليس فقط لجهة العلاقة مع سوريا، ولكن أيضاً في ما يتعلق بالاستراتيجيّة الدفاعية ومعادلة ​الجيش​ والشعب والمقاومة، على رغم ما يُقال عن إمكان استنساخ الفقرة الواردة في هذا الشأن من البيان الوزاري السابق. ويستند البعض في ذلك إلى اختيار الوزيرة ​مي شدياق​ تحديداً لعضوية لجنة صياغة البيان، دون غيرها من وزراء "القوات"، وإن كان الاعتقاد أنّ البيان سيمرّ في النهاية، ولو مع تحفّظٍ لا قيمة ماديّة له من البعض.

معارضة "بالقطعة"؟!

قد يكون من المبكر لأوانه القول إنّ جنبلاط أسّس فعلياً لـ"معارضة من الداخل" تجمعه مع "القوات اللبنانية"، ولو اصطفّت الأخيرة إلى جانبه في معركة "البيان الوزاري" التي لن تطول، كما تؤكد كل المعطيات.

فمع أنّ "القوات" خرجت برأي كثيرين، بالحدّ الأقصى من "التنازلات" في الحكومة، والتي كادت تُطيَّر منها، إلا أنّ المطّلعين على موقفها يؤكدون أنّها لا تسعى إلى "المعارضة للمعارضة"، بدليل سعيها إلى إعادة إحياء علاقتها مع "​التيار الوطني الحر​" بشكلٍ أو بآخر.

من هنا، فإنّ الاعتقاد أنّ هذه الحكومة بالتحديد لن تشهد معارضة ثابتة، كما كان الحال في حكوماتٍ سابقة، بل إنّ الأمر سيكون أشبه بـ"معارضة بالقطعة" تختلف وفق كلّ قضيّة، إذ سيجد جنبلاط نفسه إلى جانبه "القوات" تارة، وقوى أخرى على غرار "​المردة​" تارة أخرى، كما أنّه لا يُستبعَد أن تضعه الظروف مجدّداً جنباً إلى جنب الحريري في محطّات عدّة...