تبدو الحكومة الجديدة وكأنها شُكّلت على زغل. هي أقرب الى حكومة الأمر الواقع منها الى مفهوم الوحدة الوطنية. أكثر من طرف إنضَمّ الى صفوفها على مضض أو من دون اقتناع كاف، لكنه فضّل ان يكون في داخلها على ان يبقى خارجها سعياً الى حصر الخسائر. وإذا كان رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» ​وليد جنبلاط​ قد اختار الاعتراض على توازنات التركيبة الوزارية بصوت مرتفع، فإنّ هناك من يكتم الغيظ، في انتظار اللحظة المناسبة ليُفرج عمّا خفي في مكنوناته.

وما ظَهر من مؤشرات أولية بعد الولادة الحكومية يعزز الاعتقاد انّ ​مجلس الوزراء​ سيتعرض في المستقبل لكثير من التجاذبات والاهتزازات، خصوصاً انه سيواجه ملفات صعبة وسيكون مسكوناً بأشباح الهواجس، أمّا الوفاق والوئام والانسجام والتضامن فلا مكان لها إلا في حكومة «جمهورية افلاطون».

إنها على الأرجح حكومة تصفية الحسابات لا صفاء النيّات. ولن يطول الوقت، قبل ان تظهر المتاريس السياسية على طاولة مجلس الوزراء، بعدما قرر جنبلاط أن يقود بنفسه هجوماً صاعقاً، كأفضل طريقة للدفاع، فيما تميل جهات أخرى ممثلة في الحكومة الى استخدام السلاح «الكاتم للصوت» حتى إشعار آخر.

يشعر جنبلاط أنّ رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ خَذله مرة أخرى. خلال العشاء الاخير الذي جمعهما في أحد مطاعم ​الاشرفية​ حاول الحريري ان «يَدس» تعديل الحقائب في «طبق» الزعيم الدرزي. وخلافاً للدفء الذي عكسته صورة التشارك في «الخبز والملح»، كان الصقيع السياسي يتسرّب من تحت الطاولة الى مفاصل العلاقة بين الرجلين.

يومها، طرح الحريري بإلحاح على جنبلاط التخلي عن ​وزارة الصناعة​ لتسهيل ​تشكيل الحكومة​، وفقاً للاتفاق على توزيع أدوار تفكيك العقد بينه وبين الوزير ​جبران باسيل​ خلال «خلوة باريس». إمتعض جنبلاط في سرّه، خصوصاً انّ هذه الحقيبة هي «أضعف الايمان» بالنسبة اليه، وانتزاعها منه لإعطائه «الاعلام» محلها كما كان مقترحاً هو استهتار به وبمَن يمثّل. لم ينم جنبلاط على الضيم، وما هي الّا ساعات حتى ردّ في الليلة نفسها على طلب الحريري، رافضاً هذا الطلب رفضاً قاطعاً.

وأبعَد من نطاق الكر والفر حول هذه الحقيبة الوزارية او تلك، لاحظَ جنبلاط انّ الحريري أخفى عنه كواليس الطبخة الحكومية التي كانت تُطهى خلف ظهره، ما تسبّب في سوء تقدير الزعيم الدرزي الذي اعتبر عشيّة ولادة الحكومة انّ فرَص تأليفها ضئيلة، ما دفعه في اليوم التالي الى الإقرار بأنه استخلصَ درساً مريراً من «باريس-2»، وهو كان يقصد اجتماع الحريري - باسيل في العاصمة الفرنسية وما انتهى إليه من اتفاق في شأن الحكومة.

والأخطر في استنتاجات جنبلاط، تحذيره من أنّ هناك طعناً في «اتفاق الطائف» الذي تخلى عنه، في رأيه، رئيس الحكومة، موحياً أنّ الحريري تنازل خلال مراحل التأليف عن صلاحياته أو تهاوَن فيها، لحساب تعزيز دور رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل. وليس خافياً، انّ جنبلاط كان يَرتاب منذ لحظة «التسوية الرئاسية» في وجود «صفقة» متعددة الابعاد بين الحريري وباسيل، وهو ارتياب تفاقم بعد تأليف الحكومة الجديدة، وفق المعادلات التي ارتكزت عليها.

ويسعى جنبلاط الى إعطاء الاشتباك الحالي بُعداً اقتصادياً، وعدم حصره في الاطار السياسي البحت، حيث ينقل عنه قوله امام سائليه انه لن يسكت أمام محاولة استدانة 17 مليار دولار إضافية، في حين أنّ الأولوية يجب ان تعطى لتخفيض العجز والهدر والحد من التهريب، مؤكداً «انّ من حقنا ان نُبدي ملاحظاتنا ونعطي رأينا الصريح لتصحيح المسار، عبر الوزيرين اكرم شهيّب ووائل ابو فاعور».

وفي لحظة افتراق الحسابات والمصالح بين الحريري وجنبلاط، اتخذ المدير العام ل​قوى الأمن الداخلي​ ​اللواء عماد عثمان​ قرار «معاقبة» العقيد الدرزي في قوى الامن وائل ملاعب، ضمن مجموعة أسماء أخرى، بتهمة الفساد. لم يتأخر جنبلاط في اعتبار ما حصل رسالة بالبريد السريع له، ربطاً بالتوقيت الذي يعتبره غير بريء. وما أزعجَ جنبلاط هو تظهير مسألة محاسبة ملاعب كأنها تمّت رغماً عنه وخلافاً لإرادته، في حين أنه كان قد سبق له ان أبلغ الى المعنيين أنّ العقيد ملاعب هو تحت القانون ولا يرفض محاسبته، شرط اعتماد معيار العدالة بعيداً من أي كيدية.

وعلى وقع خيباته المتلاحقة حيال سلوك الحريري، توصّل جنبلاط الى استنتاج مفاده انّ رئيس الحكومة لا يتعامل معه كحليف كما هو مفترض، بل يعتمد السلبية في مقاربة معظم الامور التي تهمّ المختارة، فكان قرار المواجهة، وبالاسلحة الثقيلة، على جبهة كليمنصو- «بيت الوسط».

وهذه المرة، يبدو الحريري مصمماً على التصدي لجنبلاط، وجهاً لوجه، سواء عبر البيانات الرسمية أو عبر خط التماس التويتري، حيث «قصف» رئيس الحكومة كليمنصو أمس بتغريدة من العيار الثقيل، اكد فيها انّ الدولة ليست مشاعاً مباحاً لأيّ زعيم أو حزب، مشدداً على أنّ التغريد على «تويتر» لا يصنع سياسة، ومضيفاً في تصويب مباشر على جنبلاط: «إنها ساعة تخلٍ عن السياسة لمصلحة الاضطراب في الحسابات هيك.. مش هيك!؟».

وبالطبع، لم يتأخر جنبلاط في ردّ الصاع صاعين... وللمعركة تتمة.