يصرّح السياسيون جميعهم أنهم يحاربون الفساد. ألغيت وزارة الدولة لشؤون ​مكافحة الفساد​ لانه تبيّن للمعنيين بالشأن الحكومي أنّ لا جدوى منها. وزير الخارجية ​جبران باسيل​ يبرر إلغاءها بسبب انتقال جميع الوزارات الى مكافحة فساد.

الأولوية إذاً بحسب تصاريح القوى المشاركة في ال​حكومة​ هي قرارات واجراءات تدعو لمكافحة الفساد لأسباب عدّة أهمها :

أوّلاً-الشعب اللبناني عبر الشارع والإعلام والادارات ووسائل التواصل الاجتماعي وكلٌ من منبره يشكو من العيش في ظلّ الحرمان و​المحاصصة​ والغش والظلم، ف​الحياة​ الاجتماعية وصلت حدّ الانفجار.

ثانياً-الاقتصاد في خطر وهوّة الهدر المالي تكبر. القطاع الانتاجي يعاني الأزمات وعجز ميزانية الدولة أمام الديون والفوائد تتفاقم.

ثالثا"-ديون جديدة "تُمنَح" للبنان نتيجة مؤتمرات دولية ومنها "سيدر" إحدى شروطها إصلاحات تتضمن وجوب مكافحة الفساد.

نعم، توافقَ الجميع على العنوان، ولكن يتبيّن أنّ البوصلة ضائعة، فكلٌ يغني على ليلاه. الإتهامات المتبادلة مستمرة. من المؤكد أنّ ​البيان الوزاري​ سيتضمّن بند مكافحة الفساد. فكلّ الوزارات تحتاج الدعم الشعبي والمالي.

بعض القوى السياسيّة تتحدث عن دراسات اقتصاديّة وفنيّة وعن مشاريع اصلاحيّة. وهذا بحدّ ذاته يدعو للطمأنينة. لكن، ليس هكذا يُكافح الفساد. في العام ٢٠١٥ نشر ​البنك الدولي​ لائحة تتضمن عشرة سبل لمكافحة الفساد، بدأت بوجوب تحديد أنواعه واشكاله والاعتراف بقوة الشعب ووجوب الاستثمار فيه لتفعيل مبدأ المواطنة.

في لبنان، ليس من جهة رسمية وضعت مذكرة رسميّة حدّدت فيه أنواع الفساد السائد ومظاهره وأشخاصه ونتائجه، ولا توجد آليات لتفعيل اشراك المواطن في القرار السياسي والاداري. فكيف نحارب عدوًّا مجهولا؟.

المؤسسات الدوليّة العاملة في شؤون ​حقوق الانسان​ تضع دورياً استراتيجيّات عدّة كمقترحات دوليّة لمحاربة الفساد، لا سيّما الأمني والقضائي والاقتصادي نتيجة ظروف الانسان الصعبة في بعض المجتمعات. الى أن أصبح الفساد، الخطر المشترك الدولي، مادّة دسمة للعلوم كافة وموضع نقاش علمي طويل.

أين لبنان من الشراكة فيما بين ​القطاع العام​ والمجتمع الأهلي الّذي يعمل جاهدا لمكافحة الفساد والذي يُقابل بعضه بالخفّة والاستخفاف من بعض المسؤولين؟.

نتيجة الوضع المتفاقم السيّء الذي وصل اليه البلد والذي دعا الدول الداعمة والمانحة الى شرط فرض الإصلاحات وكأننا بتنا في عصر الوصايات الاقتصادية، نتوقّف عند ما يلي :

أوّلاً-الانتقال من التكامل والتعاون في العمل الحكومي الجَماعي فيما بين مختلف الوزارات، الى العمل الفردي الاستقلالي لكل وزارة على حدى ضمن مشاريع أحادية هو بحدّ ذاته خطأ اداري ينمّ عن بدائيّة في الممارسة التطبيقيّة للعلوم السياسيّة والإداريّة لأيّ دولة.

غياب التخطيط العام هو إحدى أوجه الفساد لأنه نتيجة حتميّة لفشل في استراتيجية الإصلاح.

ثانيا-ينهضُ من أداء معظم القيمين على السياسة اللبنانية امتلاكهم لفكر عقابي. هذا بحدّ ذاته جيّد لأن مرتكبي جرائم الفساد كاختلاس المال العام لن يثنيهم عن السوء ولن يردع غيرهم سوى العقاب. ولكن، ماذا عن الثواب؟ في ظل غياب الدعم والحوافز للموظفين والمستخدمين والتلاميذ والطلاب ورؤوس الأموال؟! فالموارد تندثر ما يؤثّر على الثّقة والإنتاجية والمصلحة العامة. فثقافة الثواب تغيب عن معظم مفاصل وادارات الدولة، وهذا بحد ذاته انتقاص من الشفافيّة الواجبة في أيّ بلد يسعى للتطوّر والازدهار.

ثالثاً-نتيجة لبعض المعاهدات والاتفاقيات الدولية كاتفاقية ​الامم المتحدة​ لمكافحة الفساد، والتي وضعت حيّز التنفيذ في العام ٢٠٠٥، صدرت قوانين وضعيّة تتعلق بمكافحة الفساد وجرائم غسل الأموال. ولكنها تحتاج الى تعديلات .ان التشريع هو الركن الاول لمحاربة الفساد عبر استحداث قوانين عدّة تتناول ايضا سبل الوقاية والرقابة.

إنّ مكافحة الفساد نهج وفلسفة واستراتيجية دولة لا يمكن ان يحققها حزب او وزير او حتى فريق واحد .

فادارة الدولة الفاعلة تفرض تخطيطا ملزما واستراتيجيّات محدّدة في الموضوع والزمن تلزم الحكومات قبل غيرها. هذا ما لم نتوصل اليه في لبنان بعد في ظل الخلاف التاريخي المتوارث بين القوى السياسيّة على من يملك صلاحيّة رسم الاستراتيجيّات الملزمة العامة .لذا يبدو الحلّ للفساد صعبا في المرحلة الراهنة، الى أن يقتنع الجميع بوجوب عقد طاولات حوار ملزمة ومؤتمرات عديدة ملزمة حول كيفية تطوير لبنان بالشراكة فيما بين القطاع العام والخاص أنّه ضرورة وطنية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ما سبق يجب أن يخلص الى مقترحات ملزمة تكوّن الحجر الأساس في سبيل درب مكافحة الفساد.

لا شيء يشير أن أي حكومة نتجت عن الديمقراطية "التوافقية" قادرة على وضع سياسات عامة ضمن خطة تنمية مستدامة سوى بالعناوين والخطوط العريضة.