في عيد القديس مارون، يحتفل الموارِنة بمارونِهم. ومارون ​الموارنة​ ناسِكٌ عابِدٌ، مُعجَبٌ بالله، و"زينةٌ في خورس القدّيسين الإلهيين"، بحدِّ قولِ أُسقف المَحّلة تيودوريطس، مُلَقَّبٌ بالقورُشي، نسبة إلى جبل قورش الكائن في سوريا الثانية، حيث أمضى حياته في محبّة الله والإنسان؛ مُصّلياً ومعلّماً وشافياً ومُحرّراً ومُقدّساً، ومُحولاُ إلى الله الإنسان والزمان والمكان. وبوحيٍ من شهادته للحقيقة وسيرة حياته النقيّة وجهاده الرّوحيّ المُقدس، سمّى التلاميذ الأولون ديرهم على اسمه " بيت مارون"، ومنه وُلِدت الكنيسة المارونيّة.

في عيد مارونهم، يجتمع الموارنة للتأكيد على ثوابت مارونيّتهم الأصيلة، وعلى أمانتهم لكنيستهم التي نشأت من الإعجاب بالله والتودّد إليه. يجتمعون ليؤكّدوا مرّة جديدة، وعلى الرّغم من بعض التجاعيد التي ترتسم على مُحيّاهم بسبب بعض الخطايا، على أنّهم باقون، ككنيسةٍ مَشرقيّة، ليواصلوا الشهادة للحقيقة "وصُنع القرارات، وتَسيير حركةِ التاريخ"، على ما تبيّنه فيهم العلامة الرّاحل الإمام محمد مهدي شمس الدّين، وأوصى به المُسلمين وهو على فراش الموت. يَعي الموارنةُ ذلِك، بشكلٍ أو بآخر، وبأنّهم قوّة مُحرّكة لها تأثيرها الإيجابيّ على صنع القرارات وتسيير حركة التاريخ، لا سيّما في هذا الشرق، الذي شهِد ولا يزال، على ولادتهم وتاريخهم المجيد المُزيّن بالإيمان والتضحيات.

ومن وعي الموارنة لنشأتهم وإدراكهم لتاريخهم، وإيمانهم بقُدرتهم على الحراك والتحريك، يَعي الموارنة، وقبل كلّ شيء، أنهم قطيعٌ صغيرٌ يؤمن إيمان الكنيسة الواحدة الجامعة المقّدسة الرسوليّة: يؤمن بالله الآب الخالق. وبالإبن الوحيد المولود منه قبل الدّهور، والمُتجسّد المُخلِّص. وبالرّوح القدس الحالّ فيهم بالمعمودية، والدّافع بهم إلى الشهادة للحقّ حتى الإستشهاد. ويَعون أيضاً أنهم جماعة تحمل رسالة تتلَخّص في الشّهادة للحقّ كمعلّمهم؛ فَمَن سَعى إلى الحقّ وجده، ومَن وجد الحقّ وجَد الحُريّة. ولهذا يتميّز المارونيّ بعشقه للحقّ وللحريّة، وذلك بغضّ النظر عن الأثمان الباهظة التي من المُمكن أن يدفعها. عشقهم للحقّ والحرية، عبّر عنه الموارنة في صلواتهم ومواقف بطاركتهم، فصلّوا مُنشدين: "ما تاريخُ الحقِّ إلاَّ دَربٌ بالأشواكِ مُفعَم، دَربُ شعبٍ في سبيلِ الحقِّ أعطّى الرّوح والدّم"(صلاة مساء ​مار مارون​، الكسليك ص 26). وقال بطاركتهم: "لو خُيّرنا ما بين العيش المُشترك والحريّة، لاخترنا الحريّة"(البطريرك ​مار نصرالله بطرس صفير​). نعم الحريّة، التي هي نَفَس الموارنة وقوام حياتهم، مع ما يُرافقها من تضحياتٍ وأثمانٍ باهظة وموت، يُشبِهُ إلى حدٍّ بعيد، موت حبّةِ الحنطة التي مصيرها أن تقع في الأرض لتأتي بثمارٍ كثيرة، ثمار القداسة والحريّة والإنفتاح والتواصل والحوار وقبول الآخر والعلم والثقافة.

وبناءً على ما سبَق، نفهم بأنَّ الموارنة لَم يرثوا ديناً جامداً؛ فالدّين الجامدُ يقف في وجه تطوّر التاريخ ويرمي به في جحيم الأصوليّة. لقد ورث الموارنة ديناً ديناميكيّاً يتميّزُ بالحركة والعدوى، على ما كان يقوله المطران ​أنطوان حميد موراني​، فالماروني، مُتحرِّكٌ ومُحَرِّك للوجود والتاريخ، وليس بمقدوره أن يتقوقع في إطار جماعته الصّغيرة، وبالتالي، أن يُخبىء إيمانه ضمن جُدران أماكن العبادة والأديار، بل يبسط وشاح إيمانه على كُلِّ أبعاد الحياة وكلِّ حدود الأرض. ولأنّ الكنيسة المارونيّة ديناميكيّة فهي لا تتوقّف عن الإتّساع والإنتشار، وهذا ما يُفسّر انتشار الموارنة في كلِّ أصقاع الأرض.

تتأمل الكنيسة المارونيّة إذاً، في عيد مارونها، بعُمق جذورها وأصالتها، فتُجدّد وعيها لذاتِها وتستشرف المُستقبل على أُساس الإيمان بالحقيقة والشهادة للإنجيل؛ فهذا القطيع الصغير، إنّما حُفظَ في هذا الشرق لرسالة صعبة، ومن أجل القيام بِها خير قيام، عليه أن يتسلّح بجُرأة الآباء الأوّلين، في الإيمان ب​يسوع المسيح​ والشهادة للمحبة والحقيقة المُحرّرة.

في فيلم بعنوان "طروادة، مدينة الذهب المفقود" للمُخرج الألماني درور زاهفي 2007، يسألُ أحدهم شخصاً التقاه في طريقه إلى طروادة قائلاً: "أليس صحيحاً أنّك تبحثُ عن الذّهب والفضّة"؟ أجابه الشخص: "أنا لا أبحثُ إلاَّ عن الحقيقة، وأعتقد بأنَّ هذا هو واجبنا".