في مرحلة ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة، وما سبقها ورافقها وتلاها من مناوشات واشتباكاتٍ بين مختلف الفرقاء، بدا واضحاً للجميع أنّ صفحة "تفاهم معراب" الذي جمع "​التيار الوطني الحر​" و"​القوات اللبنانية​" منذ ما قبل ​الانتخابات الرئاسية​، طُويت بين الجانبين، وأنّ خللاً غير بسيطٍ طرأ على العلاقة بين الجانبين، معيداً عقارب الساعة إلى الوراء.

وعلى الرغم من أنّ هذه الفرضيّة تعزّزت بشكلٍ أو بآخر، خلال ​تشكيل الحكومة​، خصوصاً في مرحلتها الأولى في ظلّ ما عُرِفت بـ"العقدة المسيحيّة"، والتي أوحت "القوات" على امتدادها، بأنّها تتعرّض لاستهداف مباشرٍ من جانب "التيار"، ورئيسه الوزير ​جبران باسيل​ تحديداً، فإنّ الأخير نجح في إعادة رسم "قواعد الاشتباك" في الأيام الماضية.

ألمح باسيل إلى إمكان عودة "التقارب" بين الجانبَين، بل ذهب إلى حدّ القول إنّ "عينه" على وزيرٍ من الحصّة "القواتية" قد يكون مشتركاً مع تكتّله الوزاريّ، "تلميحاتٌ" طرحت علامات استفهامٍ عمّا إذا كانت عودة "التطبيع" بين "التيار" و"القوات" واردة في ظلّ الحكومة الجديدة، التي لا يتردّد البعض بتوصيفها بـ"حكومة المتاريس"!.

"العمل" أولاً

حتى اليوم، لا يزال كلٌ من "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" يؤكّدان، كلٌ على حدة، تمسّكهما بروحيّة "تفاهم معراب" الذي أنهى صراعاً "تاريخياً" اتّخذ في أحيانٍ كثيرة شكلاً "دموياً"، وبالتالي كرّس "المصالحة" التي كان ولا يزال المجتمع المسيحيّ بأمسّ الحاجة إليها.

ولكن، وبعيداً عن "روحيّة" التفاهم، لا يزال كلّ من "التيار" و"القوات" يتقاذفان كرة المسؤوليّة عن "التفريط" بتفاصيل التفاهم، في إطار المنافسة الشرسة بينهما على "القيادة"، تارةً لصالح مقعدٍ نيابيّ هنا أو هناك، وطوراً من أجل مقعدٍ وزاريّ بالزائد أو الناقص، فضلاً عن "المعركة الرئاسيّة" التي يشير الكثير من المطّلعين إلى أنها انطلقت، بل "احتدمت" قبل أوانها، ولو عاند الجميع على نكران وجودها ضمن "حساباتهم" الآنيّة.

عموماً، يتّفق "التيار" و"القوات" في هذه المرحلة، على أنّ كلّ المناوشات التي دارت بينهما خلال الأشهر القليلة الماضية، باتت من الماضي لانتفاء أسبابها ودوافعها، باعتبار أنّ الانتخابات النيابيّة انتهت، وأنّ الحكومة شُكّلت، وبالتالي لم يعد مجدياً الدخول في سجالاتٍ حول "الشياطين" التي كمنت خلف المفاوضات التي أحاطت بها، والنوايا "المبيّتة" التي اتُهم كلّ فريق بتدبيرها للآخر. بالنسبة إليهما، فإنّ الظروف باتت اليوم مختلفة، وبهذا المعنى، فإنّ التقاءهما كما اختلافهما يبقى وارداً في ظلّ الحكومة الجديدة، التي تطرح شعار "العمل" في المقام الأول، بمُعزَلٍ عن كلّ الخلافات السياسية السابقة واللاحقة.

ولعلّ فكرة "التحالف على القطعة"، وإن فرّقتهما بالمُطلَق في الانتخابات النيابية الأخيرة، عادت لتلقى قبولاً "مبدئياً" لدى الطرفين، على أعتاب الانطلاقة الفعليّة للحكومة الجديدة، المنتظرة بعد نيلها الثّقة الأسبوع المقبل، باعتبار أنّ تحويلهما الحكومة إلى "ساحة حرب" بينهما، أو "نكايات" إن جاز التعبير، وإن حقّق لهما بعض "النشوة" بنسبٍ متفاوتة، لن يصبّ في صالح أيّ منهما، بل سيشلّ العمل الحكومي، بما يلحق الضرر عليهما على حدٍ سواء، خصوصاً أنّ كلاً منهما يسعى إلى تحقيق "إنجازاتٍ" تُضاف إلى سجلّهما في المرحلة المقبلة، وإلا لما قبلت "القوات" مثلاً بالدخول إلى الحكومة على رغم ما تعتبره "ظلماً" لحق بها، ولفضّلت الذهاب إلى المعارضة، أسوةً بحزب "الكتائب".

عودة "النكد"؟!

من حيث المبدأ إذاً، يبدو أنّ فكرة "إحياء" التفاهم بين "الوطني الحر" و"القوات" قابلة للأخذ والردّ، طالما أنّهما يلتقيان اليوم في إطار حكومةٍ واحدةٍ تنشد الانسجام، ما يفرض "تضامناً وزارياً" قد لا يكون مُتاحاً، من دون الحدّ الأدنى من "التفاهم" بين مكوّنات الحكومة. لكن، من حيث التطبيق، يبدو أنّ مثل هذه الفكرة لا تزال تصطدم بعقباتٍ بالجملة، بدأت مؤشّراتها بالظهور منذ الأيام الأولى لانطلاقة الحكومة، من دون انتظار نيلها الثقة حتى.

ولعلّ جلسات صياغة ​البيان الوزاري​ أعطت أكثر المؤشرات "قلقاً" بالنسبة إلى "التيار" الذي يرى مقرّبون منه أنّ أداء "القوات" خلالها كان أقرب إلى "النكد السياسي" من أيّ شيءٍ آخر، ما أوحى بأنّها لم تقابل "اليد الممدودة" للوزير جبران باسيل بالمثل، بل بالعكس على الأرجح. وإذا كان "تحفّظ" وزراء "القوات" على بعض بنود البيان الوزاري السياسية، وتحديداً الفقرة المتعلقة بالمقاومة، لم يخرج عن دائرة التوقّعات، فإنّ إصرارهم على استبدال عبارة "تحفظ" بـ"اعتراض" أتى لينسف كلّ "تفهّم" لخطوات "القوات"، علماً أنّ القاصي والداني يدركان أنّ الاعتراض والتحفظ لا يقدّمان ولا يؤخّران، باعتبار أنّ البيان الوزاري كلٌ متكاملٌ، وإما يُقبَل أو يُرفَض بالكامل، بدليل أنّ التصويت عليه يتمّ مرّة واحدة، لا فقرة تلو فقرة.

إلا أنّ ما أثار حفيظة "التيار" أكثر من كلّ ذلك، يتمثّل في اختيار الوزيرة ​مي شدياق​ من جانب القيادة "القواتيّة" لتكون "رأس حربة" داخل مجلس الوزراء، بحسب ما بدأ البعض يتلمّس، وما ترجم بالهجوم المباشر الذي شنّته على باسيل من بوابة جلسات صياغة البيان الوزاري، على خلفية تصريح الأخير عن عودة ​سوريا​ إلى جامعة الدول العربيّة. وبمُعزلٍ عن الخلاف السياسي الواقعي بين الجانبين على هذه النقطة، انطلاقاً من التموضع الإقليميّ لكلّ فريق، فإنّ "التيار" يستغرب دخول "القوات" في "معركة مبكرة" على صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، ومن خلفه وزير الخارجية، برسم السياسة الخارجيّة ومعالمها.

في المقابل، وفيما تعتبر "القوات" أنّ وزراءها لم يقوموا سوى بما ينسجم مع رؤيتهم السياسية، وهو أمرٌ طبيعيّ وبديهيّ، رافضة وضعها في سياق "معارك" افتراضية لا وجود لها، تتحدّث عن مؤشّرات غير إيجابية، إن لم تكن سلبيّة بالمُطلَق تجاهها. ويتصدّر هذه المؤشرات تصريح وزير الخارجية بعد تشكيل الحكومة، فعلى الرغم من أنّه بدا "إيجابياً" بالظاهر، تعتبره "القوات" في مكانٍ ما "ملغوماً"، خصوصاً حين يقول باسيل إنّ "عينه" على وزير من الحصّة "القواتيّة" ليكون "مشتركاً" مع "التيار"، ما أوحى وكأنّ ثمّة "وزيراً ملكاً" في حصّة "القوات"، وهو ما يرفضه "القوّاتيون" شكلاً ومضموناً.

وفي الإطار نفسه، يقرأ "القوّاتيون" تصريح الوزير باسيل في ذكرى "تفاهم مار مخايل" بين "التيّار" و"​حزب الله​"، عن دور الحزب في وصول العماد ​ميشال عون​ إلى رئاسة الجمهورية، وأنّه لولا الحزب لما وصل عون إلى الرئاسة، وما انطوى عليه هذا التصريح برأيهم، من "تجاهل تام" للدور الذي لعبته "القوّات" على هذا الصعيد، وهو ما تضعه في إطار نهج التنكّر لـ"تفاهم معراب"، الذي تعتقد أنّ "التيار" ماضٍ به، ولو جاهر بالعكس.

في خبر كان!

لن تُفتح صفحة "تفاهم معراب" من جديد. قد لا يكون من السابق لأوانه إطلاق هذا الحكم، بمُعزلٍ عن أيّ مؤشّرات إيجابيّة أو سلبيّة ظهرت خلال الأسبوع الأول من عمر الحكومة، وقبل أن تنال الثقة النيابية المطلوبة.

وسواء بقيت "روحيّة" التفاهم أم لا، فإنّ الاعتقاد الراسخ لدى الجانبين، أنّه أدّى قسطه للعلا، لتبدأ مرحلة "المنافسة" التي قد تصل بينهما إلى أوجها في ظلّ الحكومة "الجامعة"، بانتظار مرحلة "المواجهة المباشرة" التي قد لا تكون بعيدة المدى...