على مدى 48 ساعة، سيكون ​اللبنانيون​ على موعدٍ مع مشهدٍ مكرّر من "مسرحيّة" جلسات الثّقة التي تُعاد مع كلّ حكومةٍ جديدةٍ، وإن كانت هويّة بعض "الأبطال"، لا انتماءاتهم السياسيّة، عرضة للتغيير هذه المرّة، باعتبار أنّ الفرصة ستكون مؤاتية للكثير من النواب الجُدُد لاستعراض قدراتهم في هذا المجال.

من هنا، لن يكون ضرباً في الرمال ولا تنجيماً ولا تبصيراً القول إنّ مداخلات النواب ستّتسم بمجملها بسقفٍ عالٍ، لن يقف عند حدود ​الوضع الاقتصادي​ والاجتماعي المتردّي، ولا ​الوضع المالي​ المنهار، ولا الإصلاحات المطلوبة، وستتخطى شعار ​مكافحة الفساد​، الذي بات يمكن اعتباره شعار كلّ المواسم بامتياز.

وإذا كان من الطبيعي أن تنتهي "المسرحيّة" على جري العادة بثقةٍ كبيرةٍ ب​الحكومة​، بمُعزلٍ عن كلّ الاعتراضات والانتقادات، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه وسط ذلك، هل من معارضة "جدية" تواجه حكومة "إلى العمل"، بعيداً عن "الاستعراضات" المنتظرة؟!.

كلام بكلام...

قد يكون كافياً للمرء أن يدرك أنّ جلسات الثقة ستكون منقولة مباشرةً على الهواء، وأنّ عدد طالبي الكلام خلالها، من أعضاء ​الكتل النيابية​ الممثَّلة في الحكومة أصلاً، يتخطى أولئك الذين يمكن تصنيفهم في دائرة "المعارضة"، ليتخيّل المشهد الذي ينتظره، والذي قد يكون أصبح "مملاً" لكثرة تكراره.

هكذا، سيتوالى النواب على الكلام المُباح وغير المُباح. سيتحدّث الجميع عن تحدّياتٍ بالجملة تنتظر الحكومة، خصوصاً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، في ضوء الإصلاحات المطلوبة منها بموجب مؤتمرات الدعم الدولية التي عقدت العام الماضي، ولا تزال تنتظر الترجمة العملية. وستحضر من هذا الباب ملفّات الفساد، وما يُحكى عن صفقاتٍ هنا أو مشاريع هناك، وسط أخذٍ وردّ بين مكوّنات الحكومة المتضادة فيما بينها، قبل الآخرين.

لن تغيب الملفّات السياسيّة أيضاً بطبيعة الحال عن "أجندة" النواب طالبي الكلام. سيخرج من "يتحفّظ" على بعض فقرات ​البيان الوزاري​، خصوصاً في ما يتعلق ب​المقاومة​ والاستراتيجية الدفاعيّة، تماماً كما فعلت "​القوات اللبنانية​" الموجودة في الحكومة، فضلاً عن الملفات المتعلقة ب​النازحين السوريين​ والعلاقة مع ​سوريا​، كما فعل "​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، الممثَّل هو الآخر في الحكومة، والذي لم يتردّد في رفع الصوت ضدّ وزير الدولة لشؤون النازحين ​صالح الغريب​ مثلاً، بحجّة أنّ "لونه سوريّ".

في النهاية، لن تخرج جلسات الثقة عن سقف التوقّعات، ليجوز اختصارها بعبارة "كلام بكلام"، على غرار سابقاتها. لا شكّ أنّ هناك من سيتحدّث عن "إيجابيات"، بدءاً من "السرعة القياسية" التي استغرقتها الحكومة لإنجاز بيانها الوزاري، وصولاً إلى "الأمل المعقود" عليها، ولا سيما على توزير أربع نساء، في مفارقة هي الأولى من نوعها في ​تاريخ لبنان​ الحديث. لكنّ "السلبيّات" ستطغى على المداخلات، حتى يخال المرء أنّ الحكومة تواجه معارضة "شرسة" غير مسبوقة، من دون أن يدرك أنّها معارضة مصطنعة ووهميّة في أفضل الأحوال.

لا يتخطون الأصابع؟!

في جلسات الثقة، سيخرج نواب من "القوات اللبنانية" لينتقدوا البيان الوزاري للحكومة، بذريعة أنّه يفتح المجال لأيّ لبنانيّ للتسلح بعنوان المقاومة، وسيخرج نواب من "الحزب التقدمي الاشتراكي" ليشنّوا هجوماً على الحكومة، ويركّزوا هجومهم على وزيري المهجرين غسان عطا الله والنازحين صالح الغريب.

سيخرج نواب من "​حزب الله​" رافعين شعار "​محاربة الفساد​"، معتبرين أنّ الحكومة ستكون أمام اختباراتٍ جدية على هذا الصعيد، وسيخرج نواب من "​حركة أمل​" و"​تيار المردة​" لينتقدوا "العهد القوي" وما يعتبرونه استئثاراً يمكن أن ينعكس على الأداء الحكومي. وسيخرج نواب من "​التيار الوطني الحر​" و"​تيار المستقبل​" نفسه ليتحدّثوا عن "مهلة سماح" للحكومة، وأنّ الحكم عليها ينتظر الأفعال.

كلّ هؤلاء سينتقدون ويعارضون على طريقتهم، قبل أن يرفعوا أيديهم في النهاية، مانحين الحكومة "ثقة مطلقة" لا لبس فيها، أولاً لأنّهم أصلاً يختصرون الحكومة، التي باتت بموجب "البدع اللبنانية" نسخة مصغّرة عن ​البرلمان اللبناني​ ليس إلا، ما يقضي على كلّ فرصة لتطبيق مبدأ المساءلة والمحاسبة الذي تكرّسه الأنظمة البرلمانية الديمقراطية بالاسم.

ولكن، وبعيداً عن هؤلاء، أين المعارضة "الجدية" التي ستواجه الحكومة؟ وما الذي ستستطيع فعله؟.

الأكيد أنّ المعارضين "الجديين" إن جاز التعبير، لن يتخطّوا الأصابع، وربما أصابع اليد الواحدة لا اليدين، ما يُفقِدهم سلفاً القدرة على لعب أيّ دورٍ "نوعيّ"، علماً أنّ بعض هؤلاء بدأوا يتعرّضون لحملات "التخوين" سلفاً، لمجرّد رفضهم الدخول في الحكومة. ويأتي على رأسهم حزب "الكتائب" الذي لا يمتلك أكثر من ثلاثة نواب في ​المجلس النيابي​، والذي يتوقع أن يكرّر تجربة "معارضة" ما قبل ​الانتخابات​، مع بعض التعديلات التي أفرزتها نتائج الانتخابات التي أتت "مخيّبة" بالنسبة إليه، بما يجعلها ربما أكثر "براغماتية" وأقلّ "شعبوية"، علماً أنّ كثيرين لا يزالون يراهنون على دورٍ لرئيس الحزب النائب ​سامي الجميل​ في بناء معارضة حقيقية وبنّاءة كما كان قد وعد.

ولا شكّ أنّ هذه المعارضة ستشمل إضافة إلى نواب "الكتائب"، النائب ​بولا يعقوبيان​، التي يصحّ اعتبارها "المستقلة" شبه الوحيدة داخل المجلس النيابي، والتي برزت حركتها وديناميكيّتها على هذا الصعيد منذ انتخابها وحتى اليوم، إذ قد تكون من أكثر النواب نشاطاً في هذا الصعيد، وإن عرّضها ذلك لحملاتٍ من كلّ حدبٍ وصوب، تارةً في اعتبارها "ملحقة" بكتلةٍ من هنا أو هناك بسبب موقفٍ سياسيّ أو غير سياسيّ، وطوراً في اتهامها بالاقتداء بفخّ النماذج "الشعبويّة" التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

وإذا كان بعض النواب ممّن لم يمثَّلوا في الحكومة سيُصنَّفون في إطار المعارضة، وبينهم مثلاً نواب الحزب "القومي السوري الاجتماعي" وحزب "البعث العربي الاشتراكي"، فإنّ لا رهانات كبيرة على معظمهم، باعتبار أنّهم سيراعون مصالح "حلفائهم" داخل الحكومة، وفي مقدّمهم "حزب الله"، ليشذّ عن هذه ​القاعدة​ النائب ​أسامة سعد​، الذي سيكون من قلّة ستجاهر بحجب الثقة عن حكومةٍ يتمثّل فيها حلفاؤه، استكمالاً لموقفه الرافض الانضمام إلى ما سُمّي "​اللقاء التشاوري​".

"التحفيز الذاتي"

قد يكون الرهان على معارضة "جدية" و"شرسة" تواجه الحكومة بمثابة ضحكٍ على الذقون في أحسن الأحوال، لأنّ المعارضة الحقيقية التي يمكن الحديث عنها ستكون خجولة ويتيمة، وأنّها إن حاولت فعل شيءٍ، ستكون معرّضة للترهيب بعنوان "الشعبوية"، وما تجربة "الكتائب" مع هذا النوع من المعارضة سوى خير دليلٍ على ذلك.

من هنا، يمكن القول إنّ الرهان الأفضل قد يكون على "التحفيز الذاتي" لأحزاب السلطة، على غرار خطوة "الاستقالات المسبقة" التي لجأ إليها "التيار الوطني الحر"، بمُعزَلٍ عن الجدال حول قانونيّتها ودستوريّتها. فهل تشعر هذه القوى بحساسيّة المرحلة وخطورتها، خصوصاً بعد "الثورة الافتراضية" التي اشتعلت نهاية الأسبوع على خلفيّة إحراق المواطن جورج زريق نفسه، أم نكون أمام مشهدٍ مكرّر سئمه اللبنانيون، من دون أن يقووا على "الثورة" عليه حتى الآن؟!.