خطاب الحاكمين في ​لبنان​ عن الفساد هو خطاب تضليلي، لا يصوِّب نحو الفساد الحقيقي.

إستغلال السلطة والوظائف الحكوميّة لإجراء صفقات وللإستيلاء على الأموال أو إهدارها في غير منفعة للفرد والمجتمع تسمى سرقة ولا تسمى فساداً، هي جريمة سرقة، جناية السرقة، وتسميتها بالفساد ماهو إلا تغطية وتخفيفاً من وقعها إعلامياً. والفساد لا تختصره سرقة ما تم جمعه لخزينة الدولة بالاكراه من قوت الناس ومن أموالهم تحت عنوان ​الضرائب​ والرسوم.

قد يُسمَّى تغيُّب الموظف عن عمله أو عدم التزامه بالدوام الوظيفي فساداً ولا يستوي هذا مع سرقة المليارات من الثروة القومية لشعب من الشعوب حتى يجمعهما إسم واحد وليس من الإخلاص أن يكون مدلول الفساد فضفاضاً كتسمية أثناء الحديث عن الفساد وفضحه للرأي العام.

سرقة أموال​ الدولة جريمة وجناية بينما من الفساد الإداري إصدار قوانين وقرارات ذات أذىً للمواطن أو ليست لمصلحة المواطن بالكامل، أو قرارات وقوانين تساهم في تغريبه عن وطنه ودولته أو تؤثر على رفاهيته وأمنه في وطنه. ومع واقع عدم وجود تعريف واضح ومحدد للفساد من قبل الأمم المتحدة، ولكن الفساد عموماً هو أي سلوك ينتهجه موظف ​القطاع العام​ بشكل يناقض النزاهة. ولكن يبقى تشريع القوانين الجائرة هو المظهر الأكثر تعبيراً عن الفساد.

فلتسمى الأشياء بأسمائها

الفساد هو في فرض قوانين الضرائب على الحقوق وعلى ما دون الربح التجاري، فالضرائب تؤخذ من الأرباح ولا توضع أو تفرض على الأصول، انها القاعدة الإقتصاديّة والإنسانيّة في كل المجتمعات والدول.

الفساد الحقيقي هو في فرض الضرائب والرسوم والغرامات العالية على الناس بلا رحمة وبدون مراعاة لآثارها الإجتماعية المدمّرة، الفساد هو القوانين الضريبيّة والغرميّة التي لاحقت كل قرش في جيوب الناس وحولت المواطن الى نزيل ومستأجر في وطنه ومستهدف في قوته وفي إنتاجه ومدّخراته، وحوّلت الدولة الى سلطة تشليح وإفقار لا ترحم وتسبّبت بغياب الأب والأم عن بيتهما وعن أولادهما كل النهار. الفساد هو الضرائب الباهظة والمتكرّرة والتي تقتل الناس ببطء وتميت الحركة والبركة في الأسواق وفي البيوت، كل شيء بات خاضعاً إما لضريبة أو لرسم أو لغرامة. والفاسد هو من إقترح وأقرَّ هذه القوانين الضريبيّة أو من سكت عنها وهو في موقع المسؤولية.

يقول الإمام علي بن ابي طالب للوالي وللحاكم: "وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج (الضريبة)، لأن ذلك لا يدرك الا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، واهلك العباد، ولم يستقم امره الا قليلا"(١).

الفساد هو الـTVA، الفساد هو قهر المواطن وإجباره على ان يدفع ضريبة لقاء حقّه في التملك في وطنه لمجرّد البقاء فيه على قيد الحياة بالحد الأدنى من الكرامة، الفساد هو رسم تسجيل المسكن الذي يقصم الظهر، فيما تملُّك المسكن حقّ طبيعي لكل إنسان في وطنه والضرائب والرسوم تسلبه هذا الحق. الفساد هو في أن تشاركه إرث ابيه بالثلث او بالربع تحت عناوين مبهمة مثل عنوان رسم الانتقال. الفساد هو في القوانين التي وضعها الحاكمون من سنة ١٩٩٢ الى الآن لتمنع المواطن من أن يرتاح في وطنه ويعيش فيه بكرامة دون عوز ودون أعباء مادّية. الفساد هو أن يدفع المواطن ضرائب ورسوم وغرامات أكثر مما يدفع ثمناً لطعامه وشرابه.

الفساد هو ضرائب ورسوم التسجيل وضريبة الميكانيك على السيّارات في الوقت الذي تغيب فيه شبكة النقل العام غياباً كاملاً. أيُّ منطقٍ في أن تستغل حاجة الانسان الى السيّارة التي لايملك وسيلة تنقل غيرها لتفرض عليها ضرائب بالجملة، من معاينة ثم ميكانيك، ثم رسوم لوحة جديدة، رسوم دفتر سيّارة جديد، رسوم رخصة قيادة جديدة، رسوم تجديد رخصة القيادة دورياً بحسب القوانين الجديدة، وكل هذا بغياب نقل عام أو أيّة مشاريع لانشاء شبكة نقل ومواصلات عامة؟ أم كيف لدولة أن تنحدر الى ما دون مستوى المرابي مع مواطنيها حين يعاقب المواطن بغرامة تتضاعف او تزيد إنْ لم تستوفَ في مهلة قصيرة؟!.

الفساد هو في أن تبيع الدولة للمواطن جواز سفر بسعر مرتفع فيما هو حقّ مجاني له، وأن يطلب منه إحضار اخراج قيد لكل معاملة وأن يدور على الوزارات لإحضار أوراق فيما مكننة الادارة تغنيه عن كل هذا العناء، الفساد في تفاصيل مشابهة كثيرة غايتها جميعها إستنزاف أموال الناس قدر المستطاع.

الفساد هو أن يبيع المواطن المسكين ممّا يملك أو أن يحرم نفسه واولاده من مالٍ ليعطيه لمُشرِّع الضريبة بالقهر وبالقوة نظير ما هو حق مجاني.

من العدل أن يتم الإدّعاء قضائياً على كل من اشترك في وضع هذه القوانين الضريبيّة دون دراسة دقيقة لآثارها الإجتماعيّة، والتهمة هي إصدار قوانين ممعنة في أذى الناس وشقائهم وفي تدمير حياتهم الإجتماعّية وبتهمة إساءة استخدام السلطة وسوء الادارة.

لنفترض أنّ سرقات المال العام توقفت بينما استمرت هذه الضرائب والرسوم والغرامات المجباة جميعها بالاكراه، والمفروضة على ما يتعدّى الأرباح التجاريّة المباشرة والمتمثّلة بمالٍ نقدي، فما هو مصير هذه الأموال التي تُجمع في غياب أيّ مشاريع خدماتيّة؟ هل سيرتاح المواطن او يحسّ بأيّ فرق والضرائب والرسوم والغرامات لاتزال قابضة على روحه؟!.

من المدهش أن أحدا من النواب او ممّن انبروا ل​محاربة الفساد​ كيف لم يتناولوا أساس الفساد، الا وهو القوانين المشرَّعة لتحميل الناس أعباءً مادّية لم تعد تطاق. وكأنّ الناس لا تعاني منها، وكأنّ هذه الضرائب والرسوم والغرامات التي أقرّتها فئة قليلة أصبحت من المسلّمات التي تتجاوزها النقاشات والتصريحات ولا يجب أن تمسّ.

فإلى كل من يريد مواجهة الفساد، عليه أن طالب بالغاء هذه القوانين الضريبيّة المجحفة بحق شعب مسكين خائف من أنصار الزعماء، أو مضللٍ من خوف طائفي مصطنع، أو لايزال في طور استيعاب الظلم ولجم النفس وهو ينزف إفلاساً مادياً يوماً بعد آخر. إن الإستيلاء على أموال الناس قمة الكبائر والجرائم.

لمن يحكم باسم الطائفيّة الدينيّة وهو يجمع أموال الناس ويُقِّر الضرائب والرسوم، لكل ساكت عنها، أختم بقول الإمام علي لجابِي الضرائب في عهده: "فلا تبيعن لهم رزقاً يأكلونه، ولا كسوة شتاء ولا صيف، ولا درهما ولا دابّة، ولا تضربن رجلاً منهم سوطاً في طلب درهم، ولا تقمه على رجليه".

فقال الجابي: "اذن أرجع كما ذهبت"؟ فردّ الإمام علي: "وإن رجعت فإنَّا لم نُؤمرَ أن ناخذ منهم إلا العفو"(٢)

(أي مايزيد عن حاجتهم ولا يحتاجون اليه في شؤونهم و معيشتهم).

(١) محمد عبده، شرح نهج البلاغه لامير المؤمنين علي بن ابي طالب، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، الجزء 3، ص96.

(٢) أبو جعفر الاسكافي، المعيار ​الموازنة​ في فضائل الإمام امير المؤمنين. تحقيق محمد الباقر محموده، 1981، ص248،249.