فيما كان حزب "الكتائب" يتأهّب لإطلاق نسخةٍ جديدةٍ ومنقّحةٍ من معارضته مع انطلاق ​حكومة​ "إلى العمل" رسمياً بعد نيلها الثقة، في ظلّ رهاناتٍ بالجملة على دورٍ يمكن أن يلعبه في بلدٍ بات بمعظمه جزءاً من "السلطة"، تصدّرت خلافاته الداخلية الواجهة من جديد، على وقع خطابٍ مسرَّب للنائب ​نديم الجميل​ خلال المؤتمر العام للحزب.

صوّب الأخير على الوضع الداخلي للحزب، منتقداً تحوّله إلى جمعية بيئية أو مركزاً للرصد في أفضل الأحوال، وتراجع قوّته وحضوره بوصفه حزباً سياسياً عريقاً، كان يضمّ في فترة من الفترات أكثر من مئة ألف محازب. ووصل الأمر بالجميل إلى حدّ الحديث عن ​سياسة​ تسعى إلى تحويل الحزب من حزبٍ لكلّ اللبنانيين، إلى حزب العائلة أو الشخص.

ومع أنّ المؤتمر العام أفضى إلى إعادة انتخاب النائب ​سامي الجميل​ لرئاسة الحزب، وبالتزكية، فإنّ مضمون الكلام المسرّب لابن عمّه أوحى لكثيرين، وكأنّ الأخير أطلق شرارة "الثورة" في صفوف "الكتائب"، وإن حاول البعض التخفيف من وقعها، عبر القول إنّ كلام الجميل "دليلٌ على الديمقراطية" داخل الحزب!.

"الكتائب" ليس بخير؟!

ليست المرّة الأولى التي تخرج فيها الخلافات بين النائبين سامي ونديم الجميل إلى العلن، لكنّها هذه المرّة تبدو أكبر وقعاً من أيّ وقتٍ مضى، بعدما ظهر الأخير وكأنه اكتسب بعضاً من "النضوج السياسي"، معطوفاً على "الكاريزما"، اللذين لطالما اتُهِم بفقدانهما داخل وخارج الحزب، بما كان يُضعِف "الحُجّة" التي كان يستند إليها.

وليست المرّة الأولى أيضاً التي يُحكى فيها عن "طموحات شخصية" يصبو النائب نديم الجميل إلى تحقيقها داخل "الكتائب"، تجعله يتمسّك بـ"النَّفَس الثوري"، وربما "الشعبويّ"، إلى حدّ ما، في محاكاة القواعد "الكتائبية"، لعلّه يؤمّن لنفسه المقوّمات التي تسمح له بالوصول إلى ​القيادة​ في اللحظة المؤاتية، وهو ما يمنعه أصلاً من الخروج من الحزب مهما اشتدّت الخلافات والمناكفات مع القيادة الحاليّة.

وبمُعزَلٍ عن واقعيّة انتقادات الجميّل من عدمها، فإنّ الأكيد أنّ ما يعزّز "حجته" إدراك الجميع داخل "الكتائب" وخارجه، أنّ الحزب ليس بخير، وأنّ أزمة حقيقية تتهدّده، وأنّ تراجعاً كبيراً أصابه في السنوات الماضية، بدليل نتائج ​الانتخابات​ النيابية التي أفرزت كتلة "كتائبية" هشّة، لا تضمّ أكثر من ثلاثة نواب، اثنان منهم في دائرة واحدة، ما يدفع إلى الاعتقاد فعلاً بأنّ الحزب الذي كان بحجم وطنٍ بات محدوداً ومحصوراً، ليس في العدد فقط، بل حتى من حيث المساحة.

وإذا كان "الكتائبيّون" يقرّون بهذا الواقع، وسبق أن عقدوا أكثر من مؤتمر لنقاش أسبابه وتداعياته وبحث سبل مواجهته، فإنّهم يختلفون على "تشخيص" هوية المسؤول عنه، بين من يتّهم النائب سامي الجميل بتهميش الحزب من خلال سياسة "العزل" التي اعتمدها، متوهّماً بأنّ "الشعبوية" وحدها قادرة على حمايته، ومن يعتبر في المقابل، أنّ تحميل الأخير كلّ المسؤوليّات مبالغةٌ في غير مكانها، باعتبار أنّ الحزب لم يكن في أفضل أحواله حين استلم قيادته، وأنّه استطاع "تحصينه" على أكثر من صعيد.

دليل ديمقراطية؟!

"الكتائب" ليس بألف خير. لا نقاش في ذلك داخل أو خارج الحزب، بعيداً عن الشعارات التي يحلو للبعض تردادها، في سبيل الهروب من الحقيقة. خير دليلٍ على ذلك، كمية الخلافات التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، فضلاً عن عدد المؤتمرات التي نظّمها الحزب لنقاش وضعه منذ ما بعد ​الانتخابات النيابية​، التي أصيب فيها بـ"خيبة"، بعدما كان رئيسه وعد بتأسيس "جبهة معارضة" كاملة متكاملة، فإذا بحجم كتلته يتراجع.

وإذا كان الفيديو المسرَّب للنائب نديم الجميل، عن سابق تصوّر وتصميم بطبيعة الحال، "فضح" الخلافات الداخلية، وجعل الحديث عن "صراع أجنحة" داخل "الكتائب" أكثر من مشروع، فإنّ الكثير من المحسوبين على القيادة الحالية للحزب يقلّلون من شأن فحوى الخطاب، الذي يعتبرون أنّه ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير، علماً أنّ بعضهم يذهب إلى حدّ القول إنّ الكثير من نقاطه سبق أن نوقشت في اجتماعات الحزب، بحضور أو بغياب "الرفيق نديم".

برأي هؤلاء، فإنّ الحديث عن "ثورة" داخل الحزب يقودها الأخير مبالغةٌ في غير مكانها، باعتبار أنّ الحزب قد يكون من أحزاب قليلة تشهد عمليّة انتخابيّة دوريّة، تماماً كما حصل في المؤتمر العام الأخير، مع انتخاب أعضاء المكتب السياسي، ولو اعتبر البعض أنّ هذه الانتخابات كرّست تحوّل الحزب إلى "حزب الشخص"، باعتبار أنّ جميع المنتخَبين أتوا من المحسوبين على رئيس الحزب، بعيداً عن معارضي سياسته وأدائه، وهم ليسوا بقلّة،علماً أنّ أحداً لم يكن ليمنع نديم الجميل أو غيره من الترشح في وجه رئيس الحزب، لو شعر أنّ الفرصة متوافرة له للمنافسة.

ويستغرب المحسوبون على القيادة الحاليّة، الحديث عن "الديمقراطية" داخل الحزب، وكأنّها مغيَّبة، في حين أنّ العكس هو الصحيح، وكلام نديم الجميل خير دليلٍ على ذلك، علماً أنّ الاختلافات في الرؤى موجودة في كلّ الأحزاب من دون استثناء، ولكنّها تبقى مخفيّة في معظمها، كونها شأن حزبي داخلي، ليس من مصلحة أحد أصلاً أن يخرج إلى الحيّز العام. وعلى المنوال نفسه، يردّ هؤلاء على ما تضمّنه الشريط المسجّل من انتقادٍ لسياسة الحزب وتحوّله إلى "مرصد لكشف ​الفساد​ أو جمعية بيئية"، وهو ما يضعونه في معرضالإشادة لا الذم، على اعتبار أنّ الحزب يعطي شؤون المواطنين الأولوية، لأنّها جزء لا يتجزأ من ​السياسة​، توازي بأهميتها الاستراتيجيات الكبرى.

وفي هذا السياق، ثمّة من يسأل، ما الذي يريده نديم الجميل من "الكتائب"، حين يصرّ على أنّه حزب سياسي بالدرجة الأولى؟ هل خرج الحزب أصلاً عن ثوابته على هذا الصعيد؟ أليس من القلائل الذين تمسّكوا بمواقفهم المبدئية، ورفضوا الانخراط في التسويات على أنواعها، من رئاسية وحكومية، وهو ما جعله أصلاً عرضة للانتقاد والتخوين من كلّ حدبٍ وصوب؟ وما الذي يستطيع فعله أكثر من رفع الصوت ضدّ ازدواجية ​السلاح​ ومع سيادة الدولة ورفضاً لمصادرة قرارها في الحرب والسلم؟.

إلى المواجهة دُر...

قد يكون الحديث عن "ثورة" داخل "الكتائب" مبالَغاً به، أقلّه في هذه المرحلة، بانتظار ما يمكن أن تفرزه الأيام المقبلة من متغيّرات داخل وخارج الحزب. لكنّ ما لا شكّ فيه، وسط كلّ ذلك، أنّ "الكتائب" يعاني، وأنّ هذه المعاناة مزمنة، والأكيد أيضاً، أنّ مواجهتها أكثر من ضرورة، بالاتحاد قبل الاختلاف والافتراق.

وإذا كان كثيرون يعتقدون أن ترسّبات "الثورة" ستستمرّ فصولاً داخل "الكتائب" في المرحلة المقبلة، فإنّ "التحديات" أمام الحزب تبقى برأي "كتائبيّين" كُثُر، أهمّ، خصوصاً بعد تموضعهم في "المعارضة"، "معارضة" لا يريدونها "شعبوية" كالسابق، بل "على القطعة"، وهنا الامتحان الأكبر الذي ينتظرهم...