صار جليّاً أنّ عواصم ​العالم​ تتخبّط في أزمات مالية متتالية، تتظهّر في ​أوروبا​ التي تعاني من ضائقة إقتصادية مفتوحة، بينما يسعى الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ الى جذب الأموال الى ​الولايات المتحدة​، وحصر الإنفاق المالي الأميركي في الخارج، وإتخاذ قرارات تخفيض التكاليف العسكرية الحربية. لذلك، يُبدي ترامب قلقه من المد ​الصين​ي الاقتصادي في العالم، ويعمل على صدّه، بسياسات تُترجم استراتيجية ​البيت الأبيض​ التي تقوم على أساس ان المخاوف الاساسية هي من الصين وليس من الاتحاد الروسي.

وبين عجز الاوروبيين عن تمويل إعادة إعمار دول دمّرتها الحروب، وقرار الأميركيين عدم الصرف المالي في الخارج، إتّخذ ​البنك الدولي​ قراراً بعدم الدخول في عمليات اعادة الاعمار في كل من ​العراق​، ​سوريا​، ​ليبيا​، و​اليمن​. ما يعني أن تلك الدول ستعتمد على مصادر مالية أخرى لإعادة إعمار ما هدّمته الحروب الطويلة أثناء "​الربيع العربي​" المدمّر.

قد يكون مفيداً لتلك الدول عدم دخولها في سياسات الإقتراض المالي من البنك الدولي، كي لا تتراكم عليها الديون، كما يحصل مع ​لبنان​. لكن من يعمّر ما خرّبته الحروب؟ ومن أين تحصل الدول على أموال لزوم الاعمار لإعادة المهجّرين والنازحين الى مناطقهم وبيوتهم؟.

تمّ إستحضار تلك الهواجس في جلسات سياسية-إقتصادية، ليخلص الاستنتاج أن "الرأسماليين" في تلك الدول هم الوحيدون القادرون على إستثمار أموالهم في إعادة الإعمار. وتتقدّم الرأسمالية السورية، التي تستطيع أن تتدرّج في إعادة الإعمار، كما يفعل رجال اعمال سوريين، يُصنّفون في خانة الوطنيين، كما حال سامر فوز، الذي لمع إسمه في الآونة الأخيرة، من خلال إقدامه على الاستثمار في بلاده، ليشكّل مثالاً حيّاً لمستثمرين آخرين، حيث عادت مصانع سوريا الى نشاطها في ارياف دمشق وحمص، وفي حلب. وتشكل العودة الصناعية الى طبيعتها، عاملاً اساسيا في الوقوف بوجه الصناعات التركية التي تغزو الاسواق السورية، ابتداء من الحدود الشمالية، حيث لا سلطة للدولة، مرورا بالوسط السوري، وصولا الى كل الاتجاهات. ولذلك يجزم المطّلعون أن الدولة التركية هي المستفيدة الاولى من الازمة السورية، وقد زادت اعداد ​الشاحنات​ التركية التي تدخل سوريا، من ١٢٠ الف شاحنة سنويا قبل الازمة، الى ١٦٠ الف شاحنة الآن بحسب معلومات منظمات دولية، لكن الشاحنات التركية تفرغ حمولاتها في مناطق سيطرة المسلحين، ليقوم تجّار وسماسرة بنقل البضائع وتوزيعها، بشاحنات سورية.

كانت تلك البضائع حاجة للسوريين بغياب او قلة انتاجاتهم، لكن عودة عمل ​المصانع​ ستخفف من الاعتماد السوري على البضائع المهرّبة، التي تدخل من دون ​رسوم جمركية​، وتزيد من عبء الازمة الاقتصادية السوريّة.

هذا العامل الاضافي، يشجّع رجال الاعمال السوريين على الانتاج، والاستثمار في بلادهم، والدخول في عملية اعادة الاعمار، بالتعاون مع عواصم صديقة لسوريا، كدول اوراسيا، التي تستطيع ان تساند الرأسماليين السوريين ضمن شراكة معهم.

ويسعى لبنانيون الى الدخول لمسرح الاعمار في سوريا، بإعتبار ان لبنان هو الأقرب، بعدما برز إسم آل فتّوش، الذين يملكون خبرات طويلة في صناعات مواد ​البناء​، وسبق أن ساهموا في التجربة اللبنانية بنجاح. خصوصا ان علاقة الاخوة فتّوش: نقولا وبيار وموسى، هي علاقة ممتازة مع سوريا، وقد نجحوا في استثمارات قاموا بها في دول عدة، ويحظون بثقة العارفين بخبايا الإعمار.

أمّا ​الدول العربية​ التي كانت عقدت العزم على الدخول في اعادة الاعمار، خصوصا ​الامارات​ العربية المتحدة، و ​المملكة العربية السعودية​، بدوافع سياسية، للتصدي للدور التركي في شمال سوريا. فقد فرملت ​واشنطن​ اندفاعتهم، وصوّبت البوصلة بأن محاربة ايران هي الاساس لا ​تركيا​، فتجمّدت الخطوات الخليجية تجاه دمشق، وإستبدلت بخطاب ضد ​طهران​ قاد الى لقاءات ووقائع مؤتمر وارسو منذ أيام.

لكن لا مصلحة خليجية بالتفرج على اعادة اعمار سوريا، بل تقضي مصلحتهم بعدم ترك الساحة السورية لحلفاء دمشق أي الايرانيين والروس، وخصوم سوريا أي الأتراك.