بدا بالامس، وكأن الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ "يهرول" الى ان يضع بنفسه حجر الاساس لقيام دولة يهودية على الحدود مع ​لبنان​، من خلال اعلانه ان "معاداة الصهيونيّة أصبحت رمزا جديدا ل​معاداة السامية​"، وزاد الطين بلّة حين اردف قائلاً: اتصلت برئيس الوزراء الإسرائيلي ​بنيامين نتانياهو​ وأعلمته بالقرار قبل ان يتخذه.

قد يرى البعض في هذا الكلام مجرد تسجيل موقف لاسترضاء ​اليهود​ القاطنين في ​فرنسا​، ولكنه عملياً يعني اكثر من ذلك بكثير. انه يعني اولاً الموافقة غير المشروطة على ما ينوي نتانياهو القيام به ويروّج له منذ فترة غير قصيرة، لجهة اعلانه قيام دولة يهودية في اجراء عنصري لم يسبق له مثيل منذ القرن العشرين وحتى اليوم. ومن المؤكد ان نتانياهو حصل على الدعم الاميركي لتحقيق هدفه هذا، ويأتي كلام ماكرون ليؤشر الى وجود دعم اوروبي ايضاً خصوصاً وان الرئيس الفرنسي غالباً ما يقوم بمبادرات وحركات ناشطة داخل ​اوروبا​ لتسويق فكرة او للدفاع عن رأي يرغب في تجسيده الى واقع ملموس. واذا ما نجحت الفكرة اوروبياً، فإن تحقيقها لن يأخذ وقتاً طويلاً، وسرعان ما سنجد انفسنا امام دولة يهوديّة بالكامل معترف بها دولياً.

الخطورة الثانية في كلام ماكرون، تكمن في انه يقضي نهائياً على فكرة حلّ الازمة عبر قيام دولتين منفصلتين متجاورتين، ف​الدولة اليهودية​ المزمع اقامتها، لن ترضى بقيام دوة فلسطينيّة في جوارها، كما لن تتقبّل دولاً اخرى غير مقتنعة بمبادئها واهدافها وهي دول تعتبرها عدوّة لها بالفكر والوجود، ما يعني بقاء حال التوتّر والحروب في المنطقة الى اجل غير مسمى.

الخطورة الثالثة تتمثل في ان هذه الخطوة تعلن بشكل شبه رسمي، موت مبادرة عودة ​اللاجئين الفلسطينيين​ الى أرضهم، وفي الوقت نفسه احياء مشروع إعادة لمّ الشمل اليهودي من الشتات وهو امر يهدّد بإشعال ​الشرق الاوسط​ برمّته وتغيير واقعه وصورته المعروفة. هذا الامر سينعكس سلباً على شعوب المنطقة ومنها لبنان بطبيعة الحال، ولكنه سيرتدّ ايجاباً على الدول الكبرى وفي مقدمها ​الولايات المتحدة الاميركية​ و​روسيا​ وفرنسا، وهي دول لن تتأخر في التدخّل بصورة أشمل واكثر فاعلية سياسياً وميدانياً، بذريعة حماية المنطقة من الانفجار واعادة الاستقرار اليها، والدخول في مفاوضات ومحادثات جديدة ستعمّر اكثر بكثير مما عمّرت المحادثات والمفاوضات السابقة، في خطوة ستجعل التاريخ يعيد نفسه لسنوات وسنوات لجهة تقاسم النفوذ والسيطرة الغربية على الشرق.

وقد يكون هدف ماكرون من خطوته الاخيرة، تقديم الدعم المعنوي لنتانياهو على ابواب ​الانتخابات التشريعية​ المبكرة، وهو ما يحتاج اليه رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي اكثر من اي وقت مضى، في ظل الحرج الكبير الذي يعاني منه امام الاسرائيليين بسبب الخيبات الميدانية من جهة، ووسط تكتل خصومه السياسيين ضده من جهة ثانية. ولم تنفع بعد على ما يبدو جرعة المعنويات التي كسبها من خلال جلوسه على طاولة واحدة وعلى بعد سنتيمترات قليلة فقط من ممثلي دول عربيّة خلال مؤتمر ​وارسو​، فما يطلبه الاسرائيليون يتعدى هذا الحد بكثير ليعيدوا اليه الثقة.

لم يكن ماكرون موفّقاً في اطلاق موقفه المتقدم هذا، وهو دون شك سيقابل بقلق وحذر كبيرين من دول عديدة داخل اوروبا وخارجها، فيما قد يكون لبنان بعيداً عن المسار الفرنسي للمرة الاولى منذ عقود من الزمن، على أمل ان يكون ما قاله الرئيس الفرنسي مجرد اعلان موقت بهدف الحصول على دعم من شرائح فرنسية واسكات اصوات المعارضة التي باتت تهدد عهده بشكل جدّي، والا يرقى كلامه الى حد المشروع الذي ينتظر الوقت المناسب للتنفيذ.