في الشكل، أتى قرار ​المجلس الدستوري​ إبطال نيابة عضو كتلة "المستقبل" النائب ​ديما جمالي​، واعتبار مقعدها شاغراً بانتظار إجراء ​انتخابات فرعية​ خلال شهرين من تاريخ صدور قراره في ​الجريدة​ الرسمية، غير مُرضٍ للطرفين، أي تيار "المستقبل"، والمرشح الخاسر الطاعن بنيابة جمالي، طه ناجي.

وخير دليلٍ على ذلك، مسارعة الفريقين إلى اعتبار القرار "مسيّساً"، واتهام "الدستوري" بالخضوع للتدخلات، فكتلة "المستقبل" اعتبرت ما حصل "غدراً سياسياً وطعناً في الظهر"، قالت إنّ رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ شخصياً "مُستهدَفٌ" من خلاله، فيما شعر ناجي، الذي كان ينتظر إعلانه نائباً، أنّ لقب "السعادة" انتُزِع منه مرّة ثانية.

ولكن، وأبعد من الشكل، ثمّة من يعتبر أنّ قرار "الدستوري"، ولو رفضه "المستقبل" ظاهرياً، قد يكون بمثابة "هدية مجانية" للتيار "الأزرق"، الذي سيكون قادراً على استعراض قوّته في عاصمة الشمال، من خلال انتخاباتٍ فرعية وفق النظام الأكثري، الأحبّ على قلبه، بل إنّه بات توّاقاً للمعركة، ويخشى فوز مرشّحته بالتزكية...

انتصار شكليّ

بعكس ما اعتقد كثيرون، لم يكن المرشح الخاسر طه ناجي "الرابح الأكبر" من قرار المجلس الدستوري إبطال نيابة ديما جمالي والدعوة إلى انتخابات فرعيّة في عاصمة الشمال، لحسم المقعد السنّي الخامس، بل يكاد ينطبق عليه وصف "الخاسر الأكبر" أكثر، إذا جاز التعبير، باعتبار أنّ الرجل كان "شبه واثق" بالفوز، بناءً على ما يقول إنّه "خطأ مادي" لا يتطلّب الكثير من "الاجتهاد".

انطلاقاً من هنا، اعتبر ناجي، ومن يقف وراءه، خصوصاً في "​اللقاء التشاوري​" الذي كان "موعوداً" هو الآخر بتوسيع كتلته النيابيّة، أنّ قرار المجلس الدستوري أتى "مسيّساً"، خصوصاً أنّه قدّم مطالعة دستورية متكاملة، قبل أن يذهب إلى خلاصةٍ غير منسجمة مع مضمونها، ولا مع مضمون ​قانون الانتخاب​ النسبي الذي أجريت على أساسه ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة، والذي لحظ كيفية التعامل مع حالات التعادل، وليس فقط تدني الفارق في الأصوات، الذي وجد "الدستوري" أنّه "لا يُعوَّل عليه".

ومع أنّ إبطال نيابة جمالي كان متوقَّعاً، بدا "​تيار المستقبل​" متفاجئاً بالقرار، ولم يتردّد في توجيه سهامه إلى المجلس الدستوري، وذهبت كتلته النيابية إلى الحديث في بيان عالي السقف، عن "غدر" و"كيدية" وما شابه ذلك، بل وصل إلى حداللعب على "الوتر الحسّاس"، بالإيحاء بأنّ القرار يستهدف رئيس الحكومة بشكلٍ مباشر، في "استراتيجية" أراد منها "إطلاق" المعركة الانتخابية مبكراً. ويمكن القول إنّ "الاستراتيجية" التي اعتمدها "المستقبل" في وجه قرار "الدستوري" منحته الانتصار الأول في المعركة، ولو شكلياً، من خلال تصوير "مظلوميّة" ما تعرّض لها، ما يزيد من نسبة "المتعاطفين" معه.

ولعلّ هذا الأمر تعزّز من خلال التركيز على تغيير أحد أعضاء "الدستوري" توقيعه، وهو تحديداً العضو الشيعي أحمد تقي الدين، في إيحاءٍ بخضوع الأخير للتدخلات السياسية، فضلاً عن إعطاء البعض أبعاداً "نسوية" للأمر، باعتبار أنّ المجلس لم يقبل سوى طعن مقدّم ضدّ نيابة امرأة، على الرغم من أنّ طعوناً أخرى كانت تملك كلّ المقوّمات للقبول، وهو ما يفسّر قرار "المستقبل" إعادة ترشيح جمالي نفسها إلى المعركة، بعيداً عن التكهّنات التي انتشرت في الأوساط "ال​طرابلس​ية" عن إمكان استبدالها بالنائب السابق ​مصطفى علوش​.

إلى المعركة دُر

عموماً، كان واضحاً أنّ "تيار المستقبل" بدا أكثر "واقعيّة" في تقبّل قرار المجلس الدستوري والتعامل معه، من المرشح الخاسر طه ناجي، إذ سارع "التيار" إلى إعلان خوضه المعركة الانتخابية من خلال جمالي نفسها، فيما آثر ناجي انتظار "استشارات قانونية" لم يُفهَم المبرّر منها، باعتبار أنّ القانون لا يسمح بالطعن بقرارات المجلس الدستوري أصلاً، على أن يتّخذ قراره في شأن خوض السباق الانتخابيّ في وقتٍ لاحِق.

ولعلّ هذا "التفصيل" يعطي فكرة عن "الأريحية" التي يشعر بها "تيار المستقبل" على حساب خصومه، وهو ما يفسّر القراءات التي اعتبرت أنّ المجلس الدستوري منح الحريري بقراره "فرصة ذهبية" لتحقيق "انتصار مجاني"، خصوصاً أنّ الانتخابات ستجرى على أساس النظام الأكثري لا النسبيّ، وهو الذي يعطي "المستقبل" تقدّماً واضحاً في الشارع، بل يعطي جمالي الفرصة للفوز على أيّ مرشّحٍ منافس، سواء كان ناجي أو غيره، بفارقٍ يرجّح أن يكون كبيراً، وليس بضع أصوات "لا يُعوَّل عليها"، وفق اجتهاد "الدستوري". ولعلّ ما يجعل "المستقبل" مرتاحاً أكثر إلى واقعه الانتخابيّ، يتمثّل في الظروف السياسية اليوم التي لا تشبه تلك التي خيضت الانتخابات الأخيرة على أساسها، خصوصاً بعد التحالفات الجديدة التي تبلورت مع ​تشكيل الحكومة​، حيث يتوقّع أن يكون رئيس الحكومة السابق ​نجيب ميقاتي​ إلى جانبه وليس في مواجهته، إضافة إلى الوزير السابق ​محمد الصفدي​ الذي كانت عقيلته الوزيرة فيوليت خير الله "المبشّرة الأولى" بـ"إعادة" جمالي إلى الندوة البرلمانية.

وإذا كان "المستقبل" انطلاقاً من كلّ هذه المعطيات، يبدو توّاقاً إلى خوض المعركة لاستعراض قوته الشعبيّة، ثمّة من يصرّ على ضرورة "عدم نومه على حرير"، باعتبار أنّ كلّ السيناريوهات تبقى واردة، ومنها سيناريو ​الانتخابات البلدية​ الأخيرة في طرابلس، التي خاضها الحريري مرتاحاً إلى وضعه، متحالفاً مع ميقاتي، فمني تحالفهما بهزيمة نكراء في وجه الوزير السابق ​أشرف ريفي​. إلا أنّ الظروف اليوم تبدو أيضاً مختلفة كثيراً، علماً أنّ ريفي الذي قال إنّه سيدرس قرار الترشح من عدمه، لا يبدو مستعداً لذلك، هو الذي يدرك أنّ الحريري استعاد الكثير من قوته التي كانت مفقودة، ولذلك بدأ التقرّب منه مجدّداً، كما أنّ لا مصلحة لديه في خسارةٍ تعيد إلى الواجهة خسارته المدوية في الانتخابات الأخيرة، حين فشل في انتزاع مقعدٍ واحدٍ في مدينته.

العين على "الانتصار"

لا يعني بيان كتلة "المستقبل" العالي السقف ضدّ المجلس الدستوري، أنه لم يكن راضياً فعلاً عن قراره، بل إنّ هناك من سأل، ما الذي كان يمكن أن تضيفه الكتلة إلى بيانها لو أنّ المجلس الدستوري قرّر مثلاً إعلان فوز المرشح الخاسر طه ناجي، ما كان من شأنه أن يحرج فعلاً التيار "الأزرق"، ويجعله "خاسراً" بكلّ الموازين.

إلا أنّ القراءة الموضوعيّة والواقعيّة توحي أنّ المعركة الانتخابيّة انطلقت بمجرّد إعلان قرار المجلس الدستوري، وحتى قبل صدوره في الجريدة الرسميّة، ما يعني أنّ بيان "المستقبل" جزء من "عدّة الشغل" الانتخابيّة التي يخوضها التيار "الأزرق"، وعينه على "الانتصار المدوّي" فيها الذي يردّ له الاعتبار على أكثر من صعيد دفعة واحدة...