لن ننسى ​إضراب​ ​نقابة المحامين​ سنة ١٩٥١مدّة أكثر من ثمانين يوماً للمطالبة بدرس قانون مدني للأحوال الشخصية و​الزواج المدني​.

لن ننسى "النعم" المتبادلة للزواج المدني الاختياري التي أطلقها الوزراء ​المسيحيون​ و​المسلمون​، والتي كانت "زواجاً مارونياً في وحدة الصف وطلاقاً بالثلاث للطائفية والفئوية والتعصب".

كيف ننسى قرار أكثرية الوزراء 21 من أصل 30 وزيراً في الجلسة الشهيرة ل​مجلس الوزراء​ في آخر عهد الرئيس الراحل ​الياس الهراوي​؟.

وللأسف لا يزال المشروع مُجمداً بدون أي سبب دستوري أو قانوني... ولا يزال القانون ال​لبنان​ي يعاني من "انفصام الشخصية القانونيّة"، فهو يرفض الزواج المدني محلياً، لكنه "يقبل تسجيل الزيجات المدنية المعقودة في الخارج كما يقبل بمفاعيلها" وذلك استناداً الى المادة 25 من القرار رقم 60 ل. ر. وعليه، فإن الزواج المدني لا يعتبر مخالفاً للنظام العام ،الا ان دوائر النفوس والاحوال الشخصية لا تنفذّ الزيجات المدنية المعقودة في لبنان امام كاتب ​العدل​ والتي نتج عنها اولاد ...

فيستفاد مما تقدم أن المشرّع اللبناني إعتمد من حيث المبدأ أحكام القانون الدولي الخاص، إن لجهة إخضاع زواج اللبنانيين لقانونهم الوطني، أو لجهة القول بصحة شكل الزواج الحاصل في الخارج وفقاً لأحكام البلد الذي تمّ فيه، وهنا لا بدّ من السؤال ماذا تعني المدنية؟.

المدنية بمفاهيمها الحضارية:

1-ليست تحرير المجتمع من الدين ومن الله.

2-ليست الإلحاد وليست حرباً على الدين، بل هي تنظر الى الدين فيما يتعدى الحرف واللباس و​الطقس​.

ليست رفض القيم الدينية.

3-تحترم المعتقدات الإيمانية وهي بالتالي ضد ​الطائفية السياسية​، ولذلك قلما تخلو المقالة المدنيّة العلمية من آية قرآنية أو قول مقدّس أو حديث نبوي، فالمقالة المدنية تزخر بالموضوعيّة والفكر النقدي الحضاري وتحرص دوماً على عدم إحراج أحد.

4-لا دخل لها باليمين أو باليسار أو بالوسط. فالسلطة في ​الاسلام​ هي شأن بشري وليست شأناً إلهياً والاسلام في هذا الجانب مدني يحمي المدنيّة ويدافع عنها.

واننا نرى على غرار ما يراه العّلامة ​محمد حسن الأمين​ أن المدنية الحقيقية في روحها وفي مقاصدها لا تتنافى مع التعدّد الديني والثقافي، بل تقرّه ولا تتهرب من موجباته بل تحميها...

5-بمفهومها الصحيح هي جوهر ​المسيحية​ و​الإسلام​.ىوعلى الأقل فإن بوسعنا –في لبنان– أن نأخذ من المدنيّة ما لا يتنافى مع موجبات أدياننا (والكلام هنا للعلامة الأمين)، فلماذا نُحرم من أهم خصائص المدنية بذريعة الحرص على الدين؟.

مما تقدم يتبين أنه عند اختلاف النص الديني مع المنطق والعقل والتطور و​حقوق الانسان​ فالخطأ لا يكون من النص الديني بل من تفسيره الخاطىء.

واليوم مطلوب من رجال الدين التقدميين وهم "أعلم بدنياهم" تطبيق نصوصهم الدينية تطبيقاً حضارياً عقلانياً مرناً يتماشى مع متطلبات عصر الانترنت والعولمة وحقوق الانسان...

لا للانفلات الاخلاقي نعم للزواح المدني الإختياري، هذا ما قاله غبطة البطريرك الكاردينال الماروني مار بشاره بطرس الراعي يوم كان لا يزال مطراناً مضيفاً "وان كان الزواج المدني لا يتفق مع الزواج المسيحي الذي يرقى الى مستوى السرّ فلا مانع من وجود زواج مدني اختياري للأفراد الذين لا مرجعيّات دينيّة لهم تجنباً للإنفلات الأخلاقي".

كما صرّح غبطة البطريرك مؤخراً بأنه لا يعارض الزواج المدني اذا كان إلزاميّاً وهذا موقف متقدّم ومتطّور.

أما قول بعض المعترضين عن أن الزواج المدني الإختياري يُسِّهل ​الطلاق​ فلا يؤكده الواقع واليهم البرهان: لنأخذ مثلاً زواجاً مدنياً معقوداً في ولاية ​كاليفورنيا​، فهناك لا يمكن لأحد الزوجين الطلاق من الآخر إلا بعد تمليكه نصف أمواله المنقولة وغير المنقولة. وهذا الشرط القانوني الإلزامي يردع الكثيرين من هواة الطلاق ويكبح نزواتهم في التغيير واستبدال الشريك بشريك آخر.

تجدر الاشارة بأن الزواج الكاثوليكي لم يعد كالسابق فانه اليوم ترعاه نظريات فقهية كنسية متطورة تُسِّهل في بعض الأحيان إنحلال ​الرباط​ الزوجي، كأن يستحصل المتقاضي بواسطة ال​محكمة​ على تقرير علمي من طبيب نفسي أو من عالم نفس يؤكد عدم قدرة شريكه على تحمّل مسؤوليات الزواج لأسباب ذات طبيعة مرضية أو نفسية وعندها يصبح الزواج قابلاً للبطلان.

مما تقدم يتبين أن الحكم ببطلان الزواج عند المسيحيين أصبح أقّل صعوبة للإستحصال عليه من حكم الطلاق المدني في عدد من الحالات، خاصة بعد إدخال اصلاحات تاريخية على القانون الكنسي تقرب الكنيسة من المتألمين وهي لصالح "كنيسة الرحمة" تهدف الى تبسيط عملية بطلان الزواج وتسريعها .

كما انها في بعض الاحيان باتت لا تحتاج الى محكمة بل للأسقف وحده الحق بأن يبتّ بحكم بطلان الزواج.

ان الفئة المثقفة في لبنان مهيّأة وجاهزة تماما لتقبل الزواج المدني لا بل تنتظره وتطلبه، انما هذه الفئة لا تشكّل أكثرية الشعب الذي ما زال يجهل كل ما يتعلق بالزواج المدني ويظن به سوءا، لذا المطلوب توعية الطبقات العامة على حقيقة الزواج المدني وفوائده لكن من سيقوم بذلك؟.

في الإسلام يمكن إجراء عقد زواج أمام هيئة مدنية، ويكون عقداً صحيحاً في حين عند بعض ​الطوائف​ الأخرى يكون الزواج باطلاً أحياناً لأسهل الأسباب، كأن يجري مراسم الزواج كاهن غير صالح مكانياً ولم يستحصل على ترخيص من المطرانية الصالحة.

اضف الى ذلك فقد تبقى بعض الزيجات قائمة بالرغم من أسباب وجيهة أحياناً مثل الزنى العلني للزوجين أو أحدهما أو بالرغم من اتخاذ الزوج له خليلات جهاراً ، الخ...

العلمانيون ​اللبنانيون​ مؤمنون

فالعلمانيون اللبنانيون المؤمنون بربّ العالمين، إله إبراهيم وموسى والمسيح ومحمّد، يرددّون بصوت خاشع الآيات السماوية المُبشرة بحرية المعتقد وحرية الاختيار، لعلَ من يتعظ.

"قل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن"... "لكم دينكم ولي ديني"... "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، "لا إكراه في الدين... وأنتم أعلم بدُنياكم".

فمن الظلامة بمكان أن يُلزم دينٌ شخصاً بعقد زواج لا يرتاح اليه ضميرُه، لذلك يصبح الزواج الطائفي باطلاً في كثير من الأحيان، لأن عقد الزواج ينقصه الاختيار الحر والارادة المؤمنة وهذا شرط أساسي من شروط الأيمان لذلك فإن الزواج الطائفي الالزامي ليس زواجاً صحيحاً.

والحرية في الأديان حريّة مسؤولة تتطلّب النظر إلى الأمور بالعقل والمنطق والحوار و"باب الاجتهاد ما زال مفتوحاً" والاجتهاد هو العقل، والعقل هو العلم "اطلبوا العلم ولو في الصّين"، وقفل الاجتهاد يعني قفل العقول، ولا يقبل الإسلام ولا المسيحيّة رجالاً ماتت عقولـُهم، أو تحجّرت …

لا تشترط الشريعة أن يبرم عالم الدين الزواج الإسلامي، فيستطيع أحد المطارنة المسيحيين أن يبرم عقد زواج إسلامي بين مسلم ومسلمة وقد أكد على ذلك العلاّمة الأمين في ندوة تلفزيونيّة وأبدى استعداده لتسجيل هكذا زواج في المحكمة الشرعيّة. ويكون عندها عقداً شرعياً.

الاسلام منفتح نحو الآخر فكيف يمكن له أن يصادر حق الآخر في أن يكون مختلفاً، ألم تقل الآية: "يا أيها الذين آمنوا إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".

دستور تونس ودستور لبنان

مع ان تونس ليست دولة علمانية طالما أن دستورها ينصّ على أن الاسلام هو دين الدولة. ومع ذلك نلاحظ أن ​قانون الأحوال الشخصية​ التونسي أباح التبنّي في حين أن الإسلام منعه (يمكن مراجعة الآيتين 4 و5 من سورة الأحزاب). والإسلام يجيز في ظاهره تعدّد الزوجات ويبيح الطلاق سفاهة، وفي تونس المادة 18 من الأحوال الشخصية تنص على أن: "تعدّد الزوجة ممنوع". والمادة 30 من القانون تنص على أنه "لا يقع الطلاق إلا لدى المحكمة".

في تفسير تونس للآية القرآنيّة التفسير الّذي يجاري الزمن ولقد انطلق المشترع التونسي من تفسيره الآية القرآنية المعجزة: "انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة".

وقد جاء التفسير "بأن العدل بين النساء أمر مستحيل" إذن فواحدة مستندين الى آية قرآنية "ولن تعدلوا".

ذلك أننا يمكننا إعتبار الزواج الديني الإلزامي ليس زواجاً صحيحاً، لأن العقد ينقصُه الاختيار الحرّ والإرادة المؤمنة، وهذا شرط أساسي من شروط الإيمان، لأن الإسلام والمسيحية أجمعا على قواعد الحرية والشورى والتسامح عندما تكون هذه القواعد مبنيّة على العقل والقلب لمصلحة المجتمع الحرّ.

حق الزواج المدني الاختياري مكرّس ب​الدستور اللبناني​ ونذكّر بالمادة ٩ من الدستور التي تنصّ على ان حريّة الإعتقاد مطلقة. وعدم تسجيل الزيجات لا يمكن أن تترك لإستنسابية وزير الداخليةعلماً أن ​وزارة الداخلية​ هي سلطة ايداع وتسجيل فقط( تستلم وثائق الزواج).

فالحوار الذي تحدثت عنه وزيرة الداخلية ريّا الحسن هو مرحّب به ويجب ان تباشر به فوراً مع إعطائه الجدّية المطلوبة للوصول الى قوننة هذا الموضوع بعيداً عن الاستنسابية.

من أجل تحقيق الاستقرار والسلام العائلي الذي يشكّل أساس الاستقرار والسلام في المجتمع، يجب اصدار قانون خاص بالزواج المدني الاختياري، خاصة وانه غير مقبول اطلاقاً أن يتم الاعتراف بالزواج المدني المعقود خارج لبنان ويتم تسجيله في قيود النفوس وسجلات الأحوال الشخصية اللبنانية، ويُحظّر عقد هذا الزواج على الأراضي اللبنانية، وذلك انسجاماً مع النفس ومع المنطق السليم ولما لذلك من منفعة في تحقيق الانصهار الوطني والوحدة الوطنية.