لم يعد خافياً على أحد من السياسيين أو المواطنين حجم الهدر المالي الكبير في أموال الدولة نتيجة استشراء الفساد وجرأة الفاسدين في قلب مؤسسات الدولة ال​لبنان​ية على استباحة المال العام منذ عقود، وبلغت ذروتها في العقدين الأخيرين.. كما بات من المعروف أنّ حجم الأموال المنهوبة سنوياً تبلغ عدة مليارات من الدولارات، وقدّرتها وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية في الحكومة السابقة الدكتورة ​عناية عز الدين​، بنحو خمسة مليارات دولار كلّ سنة، حسب الأرقام المتوافرة…

هذا الرقم المهول، في بلد صغير كلبنان، مساحة وسكاناً، كاف إذا ما جرى تأمينه أن يسدّ العجز في ​الموازنة​ ويوقف الاستدانة.. وهو أمر ليس فيه ايّ تضخيم للحقيقة، فعلى سبيل المثل فإنّ ​مؤسسة كهرباء لبنان​ تكبّد الخزينة العامة سنوياً خسارة تقدّر بمليارين دولار لشراء الفيول لتأمين ​التيار الكهربائي​ لمدة 12 ساعة في اليوم من أصل 24 ساعة.. هذا ​العجز المالي​ المستمرّ في المؤسّسة كان السبب في ترتيب دين على الدولة نحو 40 مليار دولار من أصل نحو 90 مليار حجم الدين المترتب على الدولة حتى اليوم.. ويعود السبب الأساسي في هذا الدين المتزايد سنة بعد سنة الى عدم قيام الحكومات اللبنانية المتعاقبة على إيجاد حلول جذرية ل​أزمة الكهرباء​ وهي غير صعبة الحلّ، ويمكن حسب كلّ الخبراء والعروض التي تقدّمها الدول لمساعدة لبنان أن تنجز خلال ستة أشهر وبكلفة تقلّ عن كلفة شراء الفيول لمدة سنة أو أقلّ.. ومن كان يعيق حلّ الأزمة منذ ذلك الحين المستفيدين من الطبقة السياسية، إنْ كان من خلال عقود شراء معامل الكهرباء على ​الغاز​ التي لم تعمل بعدما تبيّن أنها غير صالحة، أو عقود شراء الفيول واستئجار ​بواخر الكهرباء​ لتأمين التيار، ورفض قبول أيّ مساعدة من روسيا أو من ​إيران​ أو غيرهما لحلّ الأزمة.. وما يحصل في الكهرباء يسري أيضاً على غيرها من القطاعات الخدماتية، التي تفوح منها روائح الصفقات، لا سيما ​النفايات​ التي تحوّلت إلى تجارة حسب تعبير أحد السياسيين… فيما من المعروف أنّ هذه القطاعات الخدماتية، في كلّ دول العالم، لا تخسر بل تحقق عائدات لخزينة الدولة.. إلا في لبنان فإنها باتت تشكل عبئاً ثقيلاً على الدولة وماليتها العامة بسبب الفساد الذي يقف وراء استمرار الأزمة…

ويدرك الجميع انّ العقبة الأساسية أمام محاربة الفاسدين هي الحماية التي يحظون بها من بعض القوى السياسية التي تستتر بالطائفية لمنع أيّ محاسبة أو مساءلة جدية لأيّ فاسد كبير.. هذا الأمر يطرح اليوم بقوة بعد أن أقدم النائب في ​كتلة الوفاء للمقاومة​ ​حسن فضل الله​ على فتح معركة ​مكافحة الفساد​ بملفات عدة تحتوي على وثائق تدين جهات مسؤولة حالية وسابقة في ضلوعها بالفساد وهدر مليارات الدولارات.. وهذه المعركة من الطبيعي أن تصطدم بمواجهة مع الفاسدين ومن يقف وراءهم ويحميهم من القوى السياسية، ولهذا لن تكون معركة سهلة بل تحتاج إلى نضال وموازين قوى سياسية وشعبية للانتصار فيها واستعادة أموال الدولة المختلسة ومحاسبة الفاسدين ليكونوا عبرة لغيرهم وبالتالي وضع حدّ لاستمرار الفساد.. انّ معركة ​محاربة الفساد​ والفاسدين لا تقلّ أهمية وضراوة عن مقاومة الاحتلال وتحرير الأرض.. فهي تحتاج إلى تعبئة وطنية شاملة لمحاصرة الفاسدين وتخليص البلاد منهم، تماما كما مقاومة المحتلّ.. في هذه المعركة يجب أن ينزع عنها أولاً ايّ حجاب طائفي أو مذهبي، فالفاسدون، كما العملاء، لا دين ولا طائفة لهم، فهم من كلّ ​الطوائف​ والمذاهب، ومن يخون الوطن لا يتوانى عن نهب المال العام.. ولذلك المطلوب جبهة وطنية سياسية وشعبية عابرة للطوائف لمنع الفاسدين من الاحتماء بالطائفية من أيّ محاسبة أو مساءلة لهم أمام ​القضاء​.. لقد بدأنا نشهد منذ لحظة طرح ملفات الفساد بشكل جدي وإحالتها إلى القضاء، استنفاراً من قبل كلّ من يعتقد أنه معني بالملاحقة أمام القضاء بتهم فساد.. رغم أنه لم يتمّ ذكر ايّ أسماء وترك الأمر للقضاء ليحدّد من هو المتهم ويجب استدعاؤه للتحقيق معه في ايّ تهمة أو شبهة فساد.. من هنا فإنّ خوض معركة محاربة الفاسدين واسترداد أموال الدولة يجب أن تكون من ضمن استراتيجية وطنية تأخذ بالاعتبار البعد الوطني في هذه المعركة، وأنها ستكون معركة طويلة وتحتاج إلى تضافر كلّ الطاقات والجهود السياسية والنيابية والمجتمعية.. وأيّ نجاح يحقق في هذه المعركة يشكل خطوة مهمة على طريق ليس فقط حماية المال العام واستعادة أموال الدولة المنهوبة، وإنما أيضاً على طريق إخراج لبنان من أزماته المزمنة على كلّ المستويات المالية والخدماتية والاقتصادية والمعيشية، والتي تتطلب بالضرورة وضع حدّ للسياسات الريعية التي كانت سببا أساسياً في إشاعة الفساد وتشجيع الفاسدين على ارتكاب جرائمهم تحت غطاء عقد الصفقات بالتراضي وغياب ايّ مساءلة أو محاسبة لهم عن كيفية إنفاق الأموال العامة في الوزارات أو تنفيذ المشاريع…