هلْ سمعتَ يوماً بِمَنْ يُشاكسُ الألفاظَ، وَيَسْتَفزُّ الحروفَ، ويُصارعُ المعاني، ويقلّبُ الصورَ، وينقضُ المتعارفَ عَلَيْهِ، ويؤيِّدُ النقيضَ، ويسبكُ الجملَ المتنافرةَ في بوتقةٍ من اللغاتِ المتناثرة، ليصنعَ منها فكرةً بسيطةً لذيذةً رشيقةً كوجبة الحمص الذي يحضرَّها ِبَيديْهِ ويُصوِّرًها بعدستهِ، فَيَجْلوها أمامنا على صفحته الفيسبوكية ولا أطيب منها ولا أشهى؟.

لا تستغربْ أبداً ما أبتدئ به هذه المقالة عن الدكتور، خريج السوربون، رئيس قسم ​اللغة​ العربية في الفرع الثالث من ​الجامعة اللبنانية​، في يوم ميلاده الستيني (أطال اللهُ في عمرهِ).

أوَّلُ ما عرفتُهُ، عرفتُهُ في هذا ​العالم​ الافتراضي بطلب صداقةٍ لم أكن أتصور يوماً أنه سيصبح أستاذي الجامعي لاحقاً، وفي أول محاضرةٍ معه طلبتُ منه بحثاً أقدمه، كما هو مفروضٌ على كلِّ طالبِ ماستر..

راح يسردُ أمامنا في الصفِّ عدمَ اقتناعه بجدية الأبحاثِ التي يقوم بها الطلابُ، فأغلبها قد يكون مسروقاً أو منسوخاً عن صفحاتِ النتِ دون جهدٍ يُذكرُ، أما هو فأبحاثه المطلوبة تطبيقية راجياً عدم الاستخفاف بها، طارحاً أمثلة عن أبحاثٍ طلبها من تلامذةٍ استخفوا بها رُبما لأنهم استغربوها أو استصعبوها، وربما استسخفوها.

سألتهُ: وما البحثُ الذي ستكلفني به؟

قالَ: الصراعُ اللغوي على رفوف احدى المكتبات.

لا أنافقكم القول أنني استصعبت البحث واستسخفته وأصابتني حالةٌ من القرفِ والاحباطِ.

أي بحثٍ هذا الذي يُطلبُ مني في بداية رحلتي في الماستر اللغوي الألسني؟

كيف وكيف وكيف. راحتْ تتزاحمُ على شفتاي وفي أعماقي مع ذهول مطبقٍ أمام عيني الدكتور.

ومن ثم راح يقسم أبحاثه على الطلبة: هذا، فليكتب عن الصراع اللغوي على اليافطاتِ في الشارع الفلاني من المستديرة إلى أولِ الشارع الثاني. وأنتِ أيتها الطالبة، فلتكتبي ملاحظاتك عن اللوحات الإعلانيّة على زجاج المحلاتِ في المنطقة المجاورة لسكنك. وأنتَ، دوِّنْ ما تشاهده من جملٍ وعبارات على زجاج السيارات مع استنتاجاتك الشخصية. الكلُّ، ولا أستثني أحداً، صُعِقَ بلذةٍ، ضَحِكَ مدهوشاً مما طُلِبَ منه.

وانطلقتُ بعد ثلاثةِ أيامٍ إلى المكتبة ففهمت عندها رسالته العميقة التي أرادَ إيصالها إلينا، وأعانني الله على بحثٍ صغيرٍ قدمته له، ففاجأني أنه نشره على صفحته الخاصة بثناءٍ على جهدنا مع تقدير لنا.

فرحتي، ساعة رأيت بحثي على صفحته، لا تَسعُها الدنيا كلها، وكانتْ هذه أول هبوطٍ وصعودٍ على أرجوحةِ هذا الدكتورِ المشاكسِ.

هي رحلةٌ معه بين عالمي الجدّ والعَبَثِ، توالتْ لقاءاتي معه بأسئلةٍ مني متتابعةٍ، رحتُ أستكشفُ عَالَمَ هذا المُشاكس المَرِحِ الذي ما عليكَ إنْ جالسْتَهُ إلاَّ أنْ تَصْمُتَ لكلماته وصوره الدَّفَّاقَةِ تنهمر عليكَ من كل حدبٍ وصوبٍ.

كأنه طفلٌ صغيرٌ يُمسكُ بطيارة ورقية، يُعْلي معانيه في أَفق أحلامه إلى أقصى مدى ناظريه، ثم يجذبها جذبة واحدة فتضحك عينيه بلمعةٍ ذهبية.

ومن قالَ أنه هرمَ بالرغم من بلوغه الستين؟

لكأني بشاعرنا العبقري (بدوي الجبل) يصفُ حالته:

أتسألين عن (الستين) ما فعلت؟

يبلى ​الشباب​ ولا تبلى سجاياهُ

ولكنه ما زال طفلاً يرى أباه في كل شيءٍ حتى في (حبة الحمص) التي عشقها كرمى لوالده، فراحَ يُغنِّجُها وَيدِّلُّعها ويزيِّنها بأفكاره، ويُطعمها من قلبه.

شلالٌ هو من المعاني الهدّارة يجتاحكُ هديرهُ، فيقلِّبُكَ ذاتَ اليمين من الصحراءِ العربيةِ القاحلة بمُطالعة جغرافيةِ تاريخية لغوية قرآنية، مُسْتَنْطِقَاً الماءَ، فِيْ كِتابِهِ الأول (لعنةُ بابل) وَالذيْ يَبدو من عنوانه أنه يوجد فيه تناص مسبوق أو ملحوقٌ، فلا تستغربْ ذلك، فهو المغرومُ المفتون بعناوين الكُتبِ، وَتَناصُّهُ اقْتناصٌ للمعاني الغامضةِ وإعادتها للحياةِ بعد أنْ عاشتْ مع الموت أو به في بابلِ الساحرةِ المخمورةِ: مهجورةً مغمورةً ملعونةً مرذولةً في كتب التاريخ، فبنى لها مدينة بين ضفتي كتابٍ، وجعلها تتمرد حتى استكبرت فعمدت الى بناء برج معرفي لبلوغ سماء الحقيقةِ ، وحلَّت لعنتهاعلى العقولِ الخاملة الكسلى.

وأنت ستندهش مرةً بعد مرةٍ أنه في ستين مقالاً لم يقاربِ العنوانَ، أو ينطلقُ منه، بل تركه مخفياً بثنائية قصدية محكمةٍ يُحرِّضُ أصحابِ النظراتِ البعيدةِ على اكتشافهِ، وأبقى لحاسري البصر سرابه ​البقيعة​.

وإذا انتقلنا إلى الخمسين مقالاً في كتابه الثاني الذي أصدره بعد خمس سنواتٍ (الكتابةُ على جلدة الرأس) راحَ ينحتُ على رؤوس الكلمات القاحلة من المعاني، باشتقاقِ الكُبّارِ، ليولد مَن مِن صغيرها وكبيرها وأكبرها صيغاً وأفعالاً وتراكيباً، مستخدماً أنفَ الفراهيدي في التَّبْئِيْرِ، وحواس أبي نواسٍ في التنظير، وحياكة المتنبي في التشاكلِ والتباينِ.

ثم يستعير من المعري ذاكرته القاتلة، للحديثِ عن لغة البناتِ السريةِ، بعد أن حُرمَ منها طيلةَ عمره رهين المحبسين، لكنه يستثير ثقافته بقامةٍ هيفاءَ قد يغير رأيه أمام ثراءِ بلاغتها الاقتصادية..

وللألوان والمآكل ووسائل التواصل عنده نظراتٌ فيها عبراتٌ. لا يسعني في هذه العجالة الحرَّة الحديث عنها إلاَ مروراً عبرها إلى خاتمتي التي كانت سبب كتابتي هذه عن دكتورنا العزيز: بلال عبد الهادي؛ لأننا نحتاج في جامعتنا اللبنانية أساتذةً يعبرون ​الطوائف​، وينسفون الأحزاب.

وبالرغم من انتمائي الواضح المذهبي لا الطائفي، لا زال يردد أمامي قول الشيخ الأكبر ابن عربي:

عَقَدَ الخلائقُ في الله عقائداً وأنا اعتقدتُ جميعَ ما اعتقدوه. وسأرددُ معه أنا ومعكم قول شاعرنا الكبير المكزون السنجاري بدعوته الجامعة: إِلى الرَحمَنِ نِسبَةُ كُلِّ عَبدٍ ظُهورُ صِفاتِهِ الحُسنى عَلَيهِ وَيَعرِفُ ما لَهُ في الغَيبِ مِنهُ بِرُؤيَةِ ما لِمَولاهُ لَدَيهِ...

والسلامُ على طيب الكلامِ