اعتبر بطريرك ​السريان الكاثوليك​ ​مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان​، في رسالة الصوم 2019 بعنوان "صلوا بلا انقطاع"، أن "موسم ​الصوم الكبير​ هو زمن تجديد العهد مع الله والذات والقريب، وذلك بالرجوع إلى الآب السماوي عبر ​الصلاة​ والإقرار بالخطايا والتوبة عنها وعيش المصالحة. هو الرجوع إلى الذات بالإصغاء إلى كلام الرب يسوع مخلصنا وإلهامات الروح ​القدس​، استعدادا لقبول استحقاقات الفداء التي تممها بآلامه وموته وقيامته. موسم روحي مميز يحثنا على تنقية ذواتنا بالصوم والصلاة وممارسة إماتات روحية وجسدية مع الجماعة الكنسية، فننفتح على القريب، سيما من يحتاج إلينا، بترميم العلاقة معه من خلال أعمال ​المحبة​ والرحمة. فالصوم هو زمن الجوع والعطش الروحي إلى البر والصلاح، فيه يرتفع العقل والفكر والقلب إلى الله، بالصلاة، تسبيحا وتمجيدا واستغفارا وتشفعا. وهكذا نحيا كل غنى السر الفصحي في حياتنا الشخصية والعائلية والإجتماعية".

وعن الصوم والصلاة في حياة المؤمن، قال: "مما لا شك فيه أن الصوم هو الإمتناع عن تناول بعض الأطعمة، كالإنقطاع عن الطعام واللحوم وسواها، إلا أنه أيضا الوقت الملائم لعيش الشبع الروحي بالإمتلاء من حضور الله ونعمه وتعزياته. فكما اقتاد الروح القدس يسوع في البرية طوال أربعين يوما وأربعين ليلة قضاها بالصوم منتصرا على تجارب إبليس، فالروح عينه يقودنا بالصلاة والصوم طوال هذا الزمن، مبتهجين بقوته، ومعلنين بنوتنا لله، وشاكرين إياه على حضوره الفاعل في الكنيسة وبين المؤمنين".

أضاف: "من هنا أهمية الصلاة، "فالروح القدس ينبوعها، يجتذبنا على طريقها، وهو معلمها الداخلي وحامي تقليدها الحي، وبالشركة معه تصبح صلاة المؤمن صلاة في الكنيسة ومعها" (كتاب ​التعليم المسيحي​ للكنيسة الكاثوليكية، 2670 و2672)".

وتابع: "تظهر مكانة الصلاة عظيمة في ​الكتاب المقدس​، ففي العهد القديم، نال الأبرار الظفر بالصلاة، إذ دعوا الرب فاستجابهم وعضدهم في الشدائد. فموسى بصلواته وتضرعاته شق البحر، فعبر الشعب وغرق فرعون المتكبر (خروج 15). وبالصلاة أوقف يشوع بن نون الشمس والقمر في السماء جاعلا من اليومين يوما واحدا (يشوع بن سيراخ10). وصلى يونان وهو في جوف الحوت في عمق البحر، فأرضى إله الكون الساكن في الأعالي (يونان2). وسمع الرب صلاة داود وتحنن عليه، فغفر إثمه وأعاد إليه النبوءة.

وفي العهد الجديد، يحثنا الفادي أن "صلوا ولا تملوا" (لو18: 1)، ويدعونا يعقوب الرسول في رسالته إلى الصلاة، ويعطيها قيمة مضاعفة متى اقترنت بالبرارة: "صلاة البار تعمل بقوة عظيمة" (يع5: 16). ويؤكد لنا بولس الرسول أهمية الصلاة وضرورة الإجتهاد بها، إذ فيها نلتقي بالله ونتحد به: "مواظبين على الصلاة" (رو12: 12)، ويتابع في مكان آخر: "صلوا بلا انقطاع" (1تس5: 17).

وتحت عنوان "الصلاة بتواضع لقاء مع الله واتحاد تام به"، استطرد قائلا: "الصلاة إذا لقاء مع الله، وعندما نلتقي مع الله لا يمكننا أن نبقى متكبرين، بل نعيش التواضع مهما كان علمنا ووضعنا الإجتماعي، لأن الصلاة ترتكز على قاعدة التواضع. وهي، قبل أن تكون كلمات وعبارات محددة، إنما هي الوقوف في حضرة الله القدوس، بمحدوديتنا وضعفنا".

أضاف: "يرفض الرب يسوع صلاة الذين يدعون أنهم أبرار وغيرهم خطأة، فهؤلاء صلاتهم مثل صلاة الفريسي في الهيكل، وهم بعملهم هذا يتكبرون على الله والناس، ويسيئون إلى الآخرين ويحتقرونهم (راجع لو18: 1-12). ويثني يسوع على صلاة العشار، الذي يقر أمام الله القدوس بأنه خاطئ ولا يستحق الإقتراب إليه تعالى، أو التماس رحمته وغفرانه (لو18: 13). فيرضى عنه الرب: "إن هذا نزل إلى بيته أبر من ذاك"، معلنا القاعدة الذهبية للصلاة: "لأن كل من رفع نفسه يتضع، وكل من وضع نفسه يرتفع" (لو18: 14).

من هنا أهمية الإعتراف بالخطايا أمام الكاهن الذي يمنح التائب الغفران بسلطان الرب يسوع الذي ينير عقله ويفتح قلبه، فيسير معه بكليته. ومن المفيد والمحبب جدا أن يتخذ المؤمن مرشدا روحيا يعينه على المضي في مسيرة حياته مع الرب، بروح الصلاة والتقوى. ومثالنا في ذلك القديسون الذين عاشوا حياتهم باتحاد تام بالله، بالتواضع الفائق، مقرين بأنهم خطاة، يمارسون التوبة والتقشف وأعمال الإماتة والرحمة، والسند الأخوي، كل ذلك بسخاء وفرح عظيمين. وفي مقدمة الجميع أمنا القديسة مريم العذراء التي عاشت حياة الصلاة: "كانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور وتتأملها في قلبها" (لو2: 19)".

واستشهد بتشديد مار أفرام السرياني على "ضرورة المثابرة والمداومة على الصلاة وممارستها بأمانة"، وبقوله في "وصيته التي تركها شهادة لتلاميذه من بعده" ما ترجمته: "واظبوا على الصلاة ليلا ونهارا... فهي لمن يحبها ويهيم بها معين عظيم في العالمين".

وقال: "كما في الصوم كذلك في الصلاة، يبقى يسوع لنا مثالا فريدا، ينفرد وحده ويختلي مناجيا أباه، متهللا بالروح، شاكرا ومحبا. لقد علمنا أن نبقى دوما متحدين معه قبل كل عمل وبعده، في الفرح والألم، في قبول الإساءة والصلب، وفي التسليم الكلي بين يدي أبيه السماوي: "لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك" (لو22: 42). هو الذي كشف لنا أن الله هو أب ملؤه الحب والحنان، فعلمنا "صلاة الأبانا" التي هي مثال لكل صلاة، مؤكدا لنا أن الصلاة، كي تستجاب، تستوجب الصبر والإلحاح، كما في مثل الصديق الذي نال طلبه بلجاجته وإلحاحه (راجع لو11: 1-8)، ومتابعا: "إسألوا تعطوا، أطلبوا تجدوا، إقرعوا يفتح لكم" (لو11: 9)".

ولفت إلى أن الكنيسة "حددت أوقاتا للصلاة يتذكر بها المؤمنون الله وعنايته الدائمة وعظائم أعماله، وفي قمتها الاحتفال بذبيحة القداس الإلهية، ذروة اللقاء بالله في سر الإفخارستيا، سر جسد الرب يسوع ودمه. وتحثنا أمنا الكنيسة على الصلوات الجماعية، إن مع أفراد العائلة أو الجماعة الكنسية، كصلوات الصباح والمساء، وما قبل الطعام وبعده، وليتورجية الساعات، والأعياد والاحتفالات الكنسية على أنواعها".

أضاف: "وتبقى الصلاة الشخصية الفردية التي تنبع من أعماق القلب، أروع تعبير عن العلاقة الحميمة التي تجمع المؤمن والمؤمنة مع الآب الخالق، والإبن المخلص، والروح المقدس المحيي، تمجيدا للثالوث الأقدس، الإله الواحد، وطلبا للقداسة التي نحن جميعا مدعوون إليها. كما أن التضرع البنوي إلى العذراء مريم والدة الله طلبا لشفاعتها، يقوي الإيمان في نفوسنا، ويملأ قلوبنا فرحا وتعزية. وعلى صلاتنا ألا تتحول إلى الروتين والتكرار، بترداد كلمات دون حياة، بل عليها أن تنشر فرح الإنجيل في نفوسنا وفي العائلة والمجتمع".

وذكر أن "آباء الكنيسة يسهبون في وصف الصلاة المقبولة لدى الله"، بقولهم: "إذا ما قمت للصلاة، فاجمع ذهنك بانسحاق، ولملم أفكارك واحبسها في أعماقك. لا تكن بالجسم حاضرا وقلبك بالمشاغل تائه، بل ليكن لك جسمك بيعة، وفكرك هيكلا مجيدا. ليكن فمك مبخرة وشفاهك بخورا طيبا، ولسانك خادما يصالح الله ويرضيه".

وقال: "في رسالته لمناسبة زمن الصوم لهذا العام 2019 بعنوان: "الخليقة تنتظر بفارغ الصبر تجلي أبناء الله" (رو8: 19)، يشدد قداسة البابا فرنسيس على أهمية الصلاة المقترنة بالصوم والصدقة: "... الصلاة كي نعرف كيف ننبذ عبادة الأنا والإكتفاء الذاتي، وكي نعترف بأننا بحاجة إلى الرب وإلى رحمته، ... وهكذا نعاود اكتشاف فرح التدبير الذي وضعه الله في الخليقة وفي قلوبنا، ألا وهو أن نحبه، وأن نحب إخوتنا وأخواتنا والعالم كله، وأن نجد في هذا الحب السعادة الحقيقية".

أضاف: "زمن الصوم، بما فيه من أصوام وصلوات وأعمال محبة ورحمة، هو "الزمن المقبول" (2كور6: 2)، علامة الإيمان الثابت والأكيد الذي يرجو ويحب، والدرب المؤدي حتما إلى فرح القيامة لحياة جديدة بقوة كلمة الله ونعمة الأسرار. فلا ندعن هذا الزمن يمر عبثا!، بل لنكن قريبين من إخوتنا وأخواتنا الذين يعانون صعوبات وآلاما واضطهادات وحروبا، فنتشارك معهم خيراتنا الروحية والمادية، واضعين رجاءنا في المسيح الرب المخلص، "هذا الرجاء الذي لا يخيب، لأن محبة الله مسكوبة في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" (رو5: 5)".

وتابع: "في هذا الزمن المقدس، نصلي بشكل خاص كي يسكب الرب سلامه وأمانه في شرقنا الحبيب، في لبنان وسوريا والعراق والأردن والأراضي المقدسة ومصر وتركيا، وفي بلاد الإغتراب، في أوروبا وأميركا وأستراليا، حيث ينتشر أبناء كنيستنا وبناتها بشكل مطرد نتيجة أعمال العنف والإبادة والإقتلاع في أرض الآباء والأجداد، فينعم الجميع بالطمأنينة والإستقرار والإزدهار.

كما نتوجه بالصلاة بحرارة تجاوبا مع دعوات أمنا مريم العذراء في ظهوراتها للأطفال في مدينة فاتيما بالبرتغال، وقد تنبأت عن الشرور التي ستحدق بالكنيسة، طالبة من الأطفال، ومن خلالهم من جميع المؤمنين، أن يواظبوا على الصلاة كي يحمي الرب الكنيسة والمؤمنين من كل شر وأذى. وإن زمن الصوم هو فرصة سانحة ودعوة خاصة لنا كي نفعل صلاتنا أمام الرب على هذه النية".

وختم بالقول: "أيها الرب يسوع، إليك نرفع صلاتنا بارة في هذا زمن الصوم المقدس، فنستمد القوة في الضعف، والنور في الظلام، والتعزية في الحزن. علمنا يا رب أن نقتدي بك، فنصلي من أجل كل عمل ومبادرة وموقف نقوم به. إرو صلاتنا من ينابيع كلمتك وتعاليم كنيستك، فتنبع صلاتنا من الإيمان، وتصمد في الرجاء، وتنتعش في المحبة.

وخير ما ننهي به تأمل من طلبة مار يعقوب في صلاة الستار ليوم الخميس: "المجد للآب الذي علمنا الصلاة بابنه، والسجود للإبن الذي صلى بألم وتنهد من أجلنا، والشكر للروح الذي يقبل الصلوات ويستجيب إلى الطلبات الحسنة".