تتوالى الضُغوط الدَوليّة المُباشرة وغير المُباشرة على لبنان، لحمله على تنفيذ إصلاحات إقتصاديّة وماليّة تُمثّل الطريق الطبيعي للإستفادة من مُقرّرات مؤتمر "سيدر" بالدرجة الأولى، وللبدء بالنُهوض على مُختلف الصُعد. فما هي الخُطوات المُنتظرة من لبنان،وهل بدأ لبنان الرسمي تنفيذ الإصلاحات فعليًا، وأين يكمن خطر تحويل عمليّات الإصلاح إلى تشفّ سياسيّ؟.

المبعوث الفرنسي بيار دوكين المُكلّف مُواكبة تنفيذ التعهّدات اللبنانيّة الرسميّة الخاصة بمؤتمر "سيدر"، طالب خلال جولته الأخيرة على كبار المسؤولين الرسميّين في لبنان، بضرورة الإسراع بإقرار المُوازنة العامة للعام 2019 الحالي، وكذلك بضرورة الإسراع بالبدء بتنفيذ الإصلاحات الإداريّة والماليّة، باعتبار أنّ وحدها هذه "الإشارات الإيجابيّة" كفيلة بتطبيق قرارات مؤتمر "سيدر" من جانب المُجتمع الدَولي، لا سيّما لجهة تحريك الهبات والقروض المُيسّرة التي وافقت مجموعة من الدول والمؤسّسات والصناديق المالية الدَوليّة على توظيفها في لبنان لتنفيذ العديد من المشاريع ومن الإستثمارات المُفيدة. وترافقت هذه المطالب مع قيام وكالة "ساندرد آند بورز" بإبقاء التصنيف الإئتماني السيادي للبنان عند "باء سلبي"، مع تغيير النظرة المُستقبلية من "مستقرّة" إلى "سلبيّة"، ما يعني أنّ على لبنان التحرّك سريعًا لإستعادة ثقة المُجتمع الدَولي ولإظهار جديته في مُواجهة الفساد وفي إدخال الإصلاحات المالية والإقتصاديّة التي طال إنتظارها.

وإذا كان من شأن تحريك ملفّ التعيينات الإداريّة، وإعادة تحريك عجلة الدولة ككل يصبّ في خانة البدء بالإستجابة جزئيًا لمطالب المُجتمع الدَولي، فإنّ التلهّي بخلافات سياسيّة وبعمليّات شدّ حبال مُتبادلة بدلاً من إطلاق سياسة ماليّة جديدة ومتطوّرة تضبط الهدر وتحدّ من النفقات، من شأنه حرف الأنظار عن الأهداف الفعليّة المطلوبة. وليس بسرّ ٍأنّ رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ يُحاول حصر الإتصالات المرتبطة بمؤتمر "سيدر" بين لبنان وبالمُجتمع الدَولي، بالحُكومة اللبنانيّة وبشخص رئيسها حصريًّا، لحصر المسؤوليّة من جهة، وللإسراع في تنفيذ الخطط والمشاريع الإصلاحيّة من جهة أخرى.

والأنظار تتركّز حاليًا على أسلوب تصرّف الدولة اللبنانيّة إزاء موضوع الإصلاحات، حيث أنّ العناوين لا تُبشّر بالخير، باعتبار أنّ التركيز على مرحلة زمنيّة مُحدّدة دون سواها والمُطالبة بكشف مصير الأموال التي صُرفت خلالها يصبّ في خانة التشفّي السياسي ضُد أفرقاء سياسيّين مُحدّدين، من دون أن يكون له أبعاد إصلاحيّة فعليّة.ففترة رئاسة فؤاد السنيورةللحكومة سابقا مثلاً كانت شهدت أصعب المراحل السياسيّة والأمنيّة ب​تاريخ لبنان​ الحديث، وتسليط الضوء على المُخالفات الماليّة فيها، دون باقي المراحل، سيُؤدّي إلى تقوقع سياسي وطائفي ومذهبي من شأنه أن يفشل أيّ إصلاح فعلي، وأيّ مُحاسبة إصلاحيّة جدّية يوجبُ أن يفتح الباب لاصلاحات وحساب من اقترف منذ بدء تصاعد الدين العام في لبنان من أعلى الهرم وحتّى أسفله دون أي استثناءات.

على خطّ مواز، تتجه الأنظار أيضًا إلى جلسات ​لجنة المال​ والمُوازنة المُخصّصة لدراسة تقريري ​مجلس الخدمة المدنية​ و​التفتيش المركزي​ في شأن التوظيف، لمعرفة المسار الذي سيؤول إليه هذا الملف، علمًا أنّ النتائج ستُرفع إلى كل من رئاسة ​المجلس النيابي​ ورئاسة الحُكومة و​مجلس شورى الدولة​، في ظلّ عدم تفاؤل بحُصول مُحاسبة فعليّة، كون كل التوظيفات التي تمّت في السنتين الماضيتين مرّت عبر قرارات حُكوميّة قانونيّة، وفي ظلّ غطاء سياسي واضح، بغضّ النظر عن شعار تجميد التوظيف. وبالنسبة إلى مُوازنة العام 2019، فإنّ كل الأرقام التمهيديّة لا تُبشّر بالخير بدورها، حيث أنّ العجز واضح نتيجة ضُعف الواردات وكثرة المصاريف والديون المُستحقّة، في ظلّ المُباشرة بعمليّات صرف الأموال قبل إقرار المُوازنة، علمًا أنّ إعادة التوازن إلى ميزان الواردات والمدفوعات هو أحد الشروط الأساسيّة لإنجاح أيّ إصلاحات على المُستويات الماليّة والإقتصاديّة والحياتيّة، إلخ.

وعلى خطّ مُواز، لا يُمكن فصل مُقرّرات مؤتمر "سيدر" عن موضوع النازحين السوريّين، حيث يُنتظر أن يكون هذا الملفّ محطّ نقاش مُستفيض خلال الأيّام والأسابيع القليلة المقبلة، محليًا ودوليًا. وفي هذا السياق، يُنتظر وُصول المُفوّض السامي لشؤون ​اللاجئين​ في الأمم المُتحدة ​فيليبو غراندي​ إلى ​بيروت​ خلال هذا الأسبوع، لبحث الموضوع مع كبار المسؤولين اللبنانيّين، علمًا أنّ رئيس الجمهوريّة العماد ​ميشال عون​ سيحمل هذا الملف إلى ​روسيا​ نهاية الشهر الحالي، في مُحاولة لتحريك المُبادرة الروسيّة بشأن إعادة النازحين السُوريّين مع كبار المسؤولين الروس.وحتى في هذا الموضوع، الأمور لا تُبشّر بالخير، بعد أن أظهر تحريك ملف النازحين تباينًا في النظرة الداخليّة إلى أفضل أساليب المُعالجة، خاصةأنّ المُساعدات الدوليّة المقدّمة من جانب المفوّضيّة العليا لشؤون اللاجئين مُتواصلة، حيث يستفيد الكثير منهم من بطاقات تغذية ومن مُساعدات تعليميّة ومن بدلات للسكن وللتدفئة، إلخ. علمًا أنّ اليد العاملة السُوريّة تسبّبت في إرتفاع نسب ​البطالة​ في لبنان بشكل مخيف. ولا يبدو أنّ الحلّ السياسي لأزمة ​النازحين السوريين​ في دول الجوار قد سلك طريقه إلى الحلّ بعد، في ظلّ خشية من ربط بعض المُساعدات للبنان الواردة في بنود مؤتمر "سادر" بهذا الملفّ.

في الخُلاصة، الأكيد أنّ الوضع اللبناني الإقتصادي دقيق، وأنّ الضغوط الخارجيّة لا تخلو من الطابع السياسي، ما يستوجب أن يتعامل لبنان الرسمي مع موضوعي مُحاربة الفساد والإصلاح بكثير من الموضوعيّةوبأسلوب مُترفّع عن الخلافات وعن الكباش الداخلي، لأنّ إدخال السياسة في هذا الملف سيُؤدّي إلى نتائج عكسيّة حتميّة ستُفشّل كل الجُهود الإصلاحيّة، وقد يؤدّي إلى تدمير المُساعدات المُنتظرة من مؤتمر "سيدر" في مهدها!.