يعتبر المعلم بطرس البستاني، ليس فقط واحداً من أهم أدباء عصر النهضة لا بل رائد رواد النهضة وقد لقبه أقرانه والذين جاؤوا من بعده بأبو التنوير.

المعلم بطرس هو سليل ​الدوحة​ البستانية التي أنجبت عمالقة الكتاب والشعراء والمفكرين واللغويين الذين أسهموا مساهمة كبرى بنشر وتحديث ووضع ​اللغة​ العربية بمتناول الجميع، والذين أغنوا الفكر المشرقي والقومي بأفكارهم النيرة، ويعتبر المعلم بطرس واحداً من أنجب البساتنة وأعظم أدباء لغة الضاد وأوسعهم علماً وأدباً ومعرفة وقد جمع في شخصية واحدة كل ما تميز به أولئك، فكان الأديب و​العالم​ اللغوي والمترجم والمفكر السباق لعصره لا سيما في المطالبة بتثقيف النساء وتزويدهن بالعلم والمعرفة لتمكينهن من لعب دورهن كاملاً ومساواتهن بالرجال، وكان الوطني الذي نادى ب​الدولة المدنية​ واحترام الأديان السماوية والخطيب الذي دعا أبناء بلده لا بل كل أبناء ​سوريا​ الطبيعية لنبذ الحقد والتفرقة والخلافات الطائفية التي عصفت بهم، فكان من أوائل من أسسس الصحف والمجلات الحرة التي كانت تحمل أفكاره. كذلك كان المعلم معلم الأجيال فأسس المدرسة الوطنية التي كانت تنادي بحب الوطن والوحدة بين كل مكونات المجتمع إلى أي دين أو طائفة انتموا.

ولعل الإنجاز الأكبر الذي حققه للغة العربية، إلى جانب ترجمته للكتاب المقدس من لغته الأصلية، هو محيط المحيط القاموس الذي يعتبر من أشهر كتبه وقد شكل في حينه معجزة المعجزات اللغوية والذي سيبقى لأمد طويل مرجعاً من أهم المراجع التي أغنت لغة الضاد.

ويعتبر المعلم بطرس البستاني واحداً من أهم الأدباء الأكثر غزارة والمفكرين الأكثر رقياً ليس في ​لبنان​ فحسب بل وفي كل دنيا العرب. وإنه لفخر للبنان أن يصار إلى تكريمه وإعادة إحياء تراثه ونشر كتبه وخطبه وتعاليمه التي ما احوجنا اليوم إليها.

ولعله من المفيد لنا أن نتوقف عند بعض النقاط والأفكار التي نادى بها المعلم فهو قد حاول في طريقة التعبير عن أفكاره الابتعاد قدر الإمكان عن الكلمات الصعبة والمفردات المعقدة وهو الضليع بلغة الضاد والعالم بكل خفاياها، فهو لم ينحو في كل كتاباته لإبراز سعة علمه وعمق معرفته بقدر ما أراد أن يحمل أفكاره في كل خطبه ومقالاته لكي تصل ليس فقط إلى أقرانه من المثقفين ولكن إلى السواد الأعظم من أبناء جلدته، وذلك لكي تعم الفائدة منها ولكي تكون بمتناول الجميع وعندما يسهل فهمها يسهل تطبيقها. وهكذا في خطبه للنساء

التي لم يكن المقصود منها التعبير فقط عن رؤيته إنما دعوة الناس إلى تنفيذ تعاليمه والعمل على إفساح المجال الواسع للنساء ودعوتهن إلى أخذ حقوقهن في العلم والمعرفة.

كما في الخطابة كذلك في ​الصحافة​ وهو الذي وضع شعاراً على صدر مجلة الجنان يقول " حب الوطن من الإيمان " فهل من لغة وأسلوب أسهل من ذلك وهل يمكن الدخول إلى ذهن الناس بأسلوب أبسط من ذلك، لقد اشتهر المعلم البستاني بالتواضع والوفاء وحب البساطة وبانفتاح القلب وصدق العاطفة وسعة الصدر فكان متواضعاً في النصح يعطي النصيحة دون منة أو كبرياء ويفتح قلبه لكل طالب علم أو معرفة لا يبخل بالأفكار ولا يخشى أن ينقلها الناس عنه، فهو كان يشكل خزان فكر لا ينضب وإذا نطق بفكرة تكون المئات منها جاهزة في فكره، وقد عرف بارتجاله الخطب وفي شتى المناسبات وشتى الظروف فبنات أفكاره تسبق لسانه بالتعبير فهو من المفكرين القلائل الذي يؤمن بما يقول ويقول ما يؤمن به، وهذه الصفة تميز بها معظم الأدباء والمفكرين البساتنة وهي وليدة اضطلاع عميق ومعرفة شاملة تمكنهم من الولوج والاستنتاج وأخذ العبر من أي موضوع يتطرقون إليه. فكان المعلم بطرس البستاني لا يعيش مع العلم والمعرفة بل إن العلم كان دائماً برفقته، وهو قد أفنى عمره كله بدون كلل أوملل وبصورة شبه متواصلة واصلاً نهاره بليله على ضؤ شمعة أو قنديل يواصل الإبداع والكتابة وكأنه كان خائفاً أن يمضي العمر ولا يستطيع أن ينهي ما بدأه، وهذا ما حصل معه بالفعل فالمعلم الذي لم يعش إلا حوالي ٦٤ عاماً فهو ولد في الأول من أيار ١٨١٩ وتوفي في أول أيار ١٨٨٣ وهكذا فإنه لم يستطع إنهاء دائرة المعارف التي كتب منها ٦ أجزاء ووضع إبنه سليم الذي توفي شاباً بعد سنة من رحيله الجزءين السابع والثامن، ليكمل بعده السلسلة إبنه الثاني نجيب بالتعاون مع نسيبه العلامة سليمان البستاني ليصلا إلى الجزء ال ١١ ، لتتوقف عندها السلسلة في العام ١٩٠٠. من ثم ليكمل كتابتها في عصرنا الحاضر العلامة فؤاد افرام البستاني الذي نشر منها ٦ أجزاء لغاية وفاته وذلك بالتعاون مع ​وزارة الثقافة​ و​الدولة اللبنانية​، وهنا نشير إلى وجود ٧ أجزاء توقفت طباعتها بعد وفاته لأسباب مادية، ف​الحكومة اللبنانية​ تراجعت عن دعم الموسوعة.

فصل الدين عن الدولة

أما المبدأ الذي أطلقه المعلم كضرورة لقيام الدولة العصرية، فهو فصل الدين عن الدولة وهو المبدأ الذي تعارض بشدة مع المبادىء التي قامت عليها ​الدولة العثمانية​، لا سيما بعد سقوط القسطنطينية في العام ١٤٥٣ على يد محمد الثاني والتي تعتبر أن دين الدولة هو ​الإسلام​، ولم ينتهي ذلك إلا مع مجيء أتاتورك. لذا لم يذهب المعلم إلى ​العلمنة​ الشاملة مع العلم أن أفكاره كانت تشير إلى هذا المنحى لديه، إنما مجرد المناداة بفصل الدين عن الدولة كان يعد إنجازاً كبيراً آنذاك.

كذلك فللمعلم بطرس البستاني مخطوطات تتضمن خطب كثيرة لم يصار إلى نشرها في حينه لأسباب عديدة، ويقال أن مكتبة نسيبه العلامة سليمان البستاني مترجم الإلياذة كانت تحتوي على عدد منها، إلا أن هذه المكتبة العظيمة التي لم يزل بناؤها الكبير أو ما بقي منه

شاهداً عليها حتى الأن، تقع في منطقة بكشتين في بلدة ​الدبية​ موئل القسم الأكبر من البساتنة وموئل المعلم بطرس البستاني، قد تم إحراقها إبان الحرب الأهلية في العام ١٩٧٦ وقد نهبت كل محتوياتها، ويأمل الباحثون العثور عليها أو على بعضها.

تكريم المعلم

إنه لمن غريب الصدف أن لا يلقى المعلم بطرس البستاني التكريم الذي يستحق، علماً أنه جرى تكريس جائزة سنوية باسمه مباشرة بعد وفاته، فقد أعلن ​المجمع العلمي​ الشرقي في العام ١٨٨٥عن إنشاء الجائزة البستانية، التي كان من المفترض أن تمنح لأفضل مقال حول موضوع معين يقترحه المجمع، إلا أن ظروفاً عديدة ومنها فرط عقد المجمع وتشتت أعضائه حالت دوم ذلك، لذا فإننا نتطلع بشغف إلى يوم تكريمه في الثاني من أيار المقبل الذي يشكل الذكرى المئوية الثانية لولادته، هذا العمل الكبير وهذه الظاهرة الحضارية التي من المؤمل أن يحتفل بها عدد كبير من دور العلم والثقافة وعلى سبيل المثال لا الحصر ​الجامعة الأميركية​ في ​بيروت​ و​الحركة الثقافية​ في ​انطلياس​، كذلك هناك نشاط مميز ستقوم به جمعية المعلم بطرس البستاني الثقافية والفكرية والاجتماعية التي أنشئت خصيصاً لنشر تراث المعلم وأفكاره النيرة، حيث سيقام في بيروت المدينة التي أحبها المعلم بطرس البستاني مهرجاناً ثقافياً كبيراً تحضره شخصيات فكرية وأدبية ودينية وأكاديمية من مختلف انحاء العالم وذلك لإحياء المئوية الثانية لولادة المعلم في ٢ أيار المقبل.