يمكن أن يُقال الكثير حول ردود رئيس الوزراء الأسبق ​فؤاد السنيورة​ على الاتهامات الموجّهة ضدّه على خلفية الارتكابات الماليّة والفساد الإداري، أو ما يحلو له وصفها بـ"الحملات" وربما "المؤامرات" التي لا تستهدف شخصه فحسب، بل من وما يمثّل بالدرجة الأولى، وتحديداً النهج الاقتصادي لرئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​.

وإذا كان هذا الرأي وجد من يتلقّفه، خصوصاً داخل "​تيار المستقبل​" الذي استنفر دفاعاً عن السنيورة، في مواجهة "فرضيّة" التخلي عنه، في ضوء ​التسوية الرئاسية​ وما تلاها من إجراءات فرضها رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ على "صقور" تيّاره، والسنيورة على رأسهم، فإنّ ثمّة في المقابل من رأى أنّ وزير المال السابق دان نفسه بنفسه، عندما التجأ إلى "الطائفة" و"السيّاسة" لتبرير، أو ربما "تحصين" نفسه.

ولا شكّ أنّ السنيورة نجح في المواجهة بالسيّاسة إلى حدٍ بعيد، من خلال إعادة استنهاض ما تبقّى من فريق "14 آذار" من بين الركام، إذا جاز التعبير، سواء عبر الحضور الذي حظي به مؤتمره الصحافيّ من شخصيّات تدور في الفلك نفسه، أو بمضمون الخطاب السياسيّ الذي حاكى في غالبيته، شعارات ومبادئ "14 آذار"، من دون أن ننسى التداعيات التي كادت تضع التسوية الرئاسيّة التي نقلت البلاد من مكان إلى مكان، في مهبّ الريح!.

مطالعة "آذارية" بامتياز!

على الرغم من أنّ المؤتمر الصحافي الذي عقده السنيورة كان مخصصاً للرد على الاتهامات التي وُجّهت إليه، ربطاً بقضايا الحسابات الماليّة والفساد الإداري، إلا أنّه شكّل مناسبة برأي كثيرين، من حيث الشكل والمضمون على حدّ سواء، لإعادة اصطفاف "14 آذار" إلى الواجهة، واستنهاض المبادئ والثوابت التي لطالما نادى بها.

فمن حيث الشكل أولاً، كان لافتاً الاحتضان الذي لقيه السنيورة في مؤتمره، ليس من جانب كتلة "المستقبل" التي كان يرأسها فحسب، ولو لم يحضر رئيس الحكومة سعد الحريري على المستوى الشخصيّ لاعتباراتٍ وحساباتٍ متفاوتة، ولكن أيضاً من جانب شخصيّاتٍ "آذاريّة"، غُيّب بعضها عن المشهد قسراً منذ أفول زمن "8 و14".

أما من حيث المضمون، فليس خافياً على أحد أنّ السنيورة تعمّد إدخال السيّاسة على خط الرد على مهاجميه، فكان تكرار لثوابت "​ثورة الأرز​"، وتصويب مباشر على "حزب الله"، ما أعاد إلى الأذهان احتفالات ومهرجانات "14 آذار" في عزّ "قوتها"، حين كان خطاب "ازدواجيّة السلاح" و"رفض الدويلة" هو السائد، وهو ما اختصره السنيورة أصلاً بكلامٍ واضحٍ من خارج السياق المفترض، حوّل فيه إشكالية الفساد من الأمور الماليّة إلى الفساد السياسي، الذي اعتبره "الفساد الأكبر والشرّ الأعظم"، مضيفاً أنّ "كل من يقيم دويلات داخل الدولة يُعتبَر فاسداً سياسياً".

ولعلّ ما أسهم في نجاح السنيورة في "تسييس" المعركة التي خيضت ضدّه، كان موقف "تيار المستقبل" المساند له حتى العظم، وهو الّذي تجلى منذ اليوم الأول، بهجومٍ سياسيّ موازٍ تولاه إعلام "المستقبل" تحت شعار "مَن يحاكم مَن"، وفق قاعدة أنّ "الخارج على الدولة، والذي يعرّض مصالح ​لبنان​ للخطر" لا يحقّ له أن يحاكم "رجل الدولة". ومع أنّ السنيورة لم يؤكد في مؤتمره الصحافي ثقته ب​القضاء​، قائلاً إنّه سيدرس أمر مثوله إذا ما تمّ استدعاؤه في مفارقة لافتة، إلا أنّ كثيرين يعتبرون أنّ خصوم الرجل، وفي مقدّمهم "حزب الله"، يتحمّلون مسؤولية "التسييس" الّذي استغلّه الرجل، من خلال تحويل معركة ضدّ الفساد، كان يفترض أن تكون وطنيّة، إلى معركة شخصيّة لتصفية الحسابات، أولاً وأخيراً.

أين "التسوية الرئاسية"؟!

عندما رفع "حزب الله" الصوت، مدشّناً معركته ضدّ الفساد، التي بشّر بها منذ ما قبل ​الانتخابات النيابية​، بملاحقة السنيورة، نأى "​التيار الوطني الحر​" بنفسه إلى حدّ ما عن المعركة، حرصاً على علاقته بـ"تيار المستقبل" ورئيس الحكومة، ولو أنّه "أحرِج" في مكانٍ ما باعتبار أنّه كان البادئ أصلاً في هذه المعركة قبل سنوات، من خلال ما عُرف بـ"الإبراء المستحيل" الذي خاض "التيار" في سبيله صولات وجولات بالجملة.

لكنّ ما قبل المؤتمر الصحافي للسنيورة لم يكن نفسه ما بعده، خصوصاً أنّ الأخير لم يحيّد "الوطني الحر" عن هجومه، أو بالحدّ الأدنى عن "تلميحاته"، وهو ما برز خصوصاً من خلال انتقاده الذين "يعدّلون ​الدستور​ بالممارسة"، الأمر الذي فُسّر على أنّه قصد من خلاله ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، فضلاً عن تباهيه بأنّه "لا يقدّم التنازلات"، الأمر الذي اعتُبِر "انتقاداً مبطناً" للحريري، وما قدّمه من تنازلات في سبيل "التسوية الرئاسيّة"، التي لم يُخفِ السنيورة يوماً أنّه كان ولا يزال معارضاً شرساً لها. وفيما كان لافتاً دخول "الوطني الحر" بنتيجة ذلك، على خط المعركة ضدّ السنيورة، محاولاً الفصل بينه وبين الحريري، جاء الردّ بهجومٍ "مستقبليّ" جديد، عبر رسالةٍ واضحةٍ لا لبس فيها، السنيورة هو الحريري، ومن يستهدف الأول يستهدف الثاني.

انطلاقاً من ذلك، يقول البعض إنّ السنيورة نجح في ضرب عصفورين بحجر، إذ ان تداعيات "الحملة" عليه لم تؤدّ فقط إلى رفع السقف مع "حزب الله" بعد "هدنة" كان على المستوى الشخصي معارضاً لها، بل استطاع أن يدق "الإسفين" على خط العلاقة بين "تيار المستقبل" و"التيار الوطني الحر"، الأمر الذي تجلى واضحاً من خلال التسريبات "المستقبلية" رداً على "التيار"، عن أنّ السنيورة هو الحريري، ما دفع إلى التساؤل عن مصير "التسوية الرئاسية" في ضوء ذلك، ولو كان الحريري أكّد قبل أيام، خلال جلسة ​مجلس الوزراء​، أنّ علاقته برئيس الجمهورية ممتازة، في سياق احتواء ما دار في الجلسة التي سبقتها.

ومع أنّ المعنيّين يستبعدون تداعياتٍ "كارثية" للأزمة المستجدة على خط "التسوية الرئاسية" التي يصرّ طرفاها على عدم التفريط بها، أياً كانت الصعوبات والعوائق، ويعتبرون أنّ لا خيار مطروحاً أمام "الوطني الحر" و"المستقبل" سوى تجاوز ما حصل، عاجلاً أم آجلاً، فإنّ الأكيد أنّ ما حصل ويحصل يؤكد مجدّداً أنّ الانطلاقة الحكوميّة "غير مبشّرة"، فبدلاً من التسابق على الإصلاحات، يبدو أنّ مكوّنات الحكومة باتت تتسابق على الخلافات، وهو ما ينذر بالأسوأ.

من المخطئ؟

قد يكون "حزب الله" مخطئاً، بإطلاق معركته الموعودة ضدّ الفساد، بمواجهةٍ مباشرةٍ مع خصمٍ سياسيّ، ما يفقدها أيّ "صدقيّة" كانت الكثير من الرهانات معلّقة عليها.

وقد يكون "التيار الوطني الحر" مخطئاً بملاقاته في منتصف الطريق، وتبني مثل هذه "المواجهة"، في وقتٍ لا تزال العلاقة مع رئيس الحكومة تتأرجح، وتتقاذفها الأمواج.

وقد يكون "تيار المستقبل" مخطئاً بالوقوع في فخّ "تسييس" المعركة و"شخصنتها"، تماماً كما قد يكون السنيورة مخطئاً بالرهان على إمكان إعادة استنهاض "14 آذار"، ولو ثبّت وجود "مؤامرة" تستهدفه شخصياً.

كلّ ذلك ممكن، لكنّ الأكيد أنّ جميع الأفرقاء وجدوا ما يلتهون به، ويؤخرهم عن تحمّل مسؤولياتهم، فيما أنظار ​المجتمع الدولي​ مشدودة إليهم بانتظار "إصلاحات" لا يبدو أنها ستبصر النور طالما النهج على ما هو عليه...