لقد فضحَنا السيد دوكان. فما أن تكلَّم مع المسؤولين حتى اكتشف ما يحاولون إخفاءه. ولذلك، جاءت ردّات فعله حازمة وبعيدة عن أناقة التعبير الفرنسي. وفي خلاصة ما قاله:

لا مساعدات ستحصلون عليها إلا إذا جاءت موازنة 2019 منسجمة مع توصيات "سيدر" ووعودكم بالإصلاح. فأنتم لا تُظهِرون أي رغبة حقيقية في محاربة ​الفساد​، ولست متفائلاً بأنكم ستفعلون، وإدارتكم ضعيفة وسيئة ولا تستطيع مواكبة المشاريع الكبيرة. ولذلك، من الصعب أن تتحرّك غالبية مشاريع "سيدر"، وإذا تحرَّكت فنحن سنتولّى الإشراف عليها.

البعض يقدِّر أن المهلة التي أعطاها دوكان للمسؤولين كي يترجموا تعهداتهم ويلتزموا الإصلاح الحقيقي تقارب الـ10 أسابيع. وهي المدّة التي يُفترض أن يستغرقها إصدار الموازنة وإقرارها، مع كل ما يرافقها من إصلاحات، خلال العقد العادي للمجلس النيابي، أي حتى نهاية أيار المقبل.

***

طبعاً، المتفائلون هنا قليلون. وأول المتشائمين هو دوكان نفسه الذي كان أعطى انطباعاً في زيارته السابقة بأن لبنان ليس قابلاً للإصلاح. والمستغرب أن الكثير من المسؤولين عندنا يسمعون هذا الكلام ويقولون في أنفسهم "الدنيا عم تشتي".

فما من بلد يمتلك أهله وسياسيوه ومسؤولوه كرامة وطنية يستطيع تحمُّل هذا الكلام. ولو قيل مثلُه عن طبقة السياسيين والمسؤولين في فرنسا لاستقالوا فوراً، أو لإنتفض الشعب كلّه عليهم، لا بالسترات الصفر، بل بثورة 1789 جديدة.

إذا وجد الفرنسيون تجاوباً لبنانياً، فسيأتي وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان خلال الربيع، فيما زيارة ماكرون تكاد تكون ملغاة. وأما إذا لم يتم التجاوب، فالتعاطي الفرنسي مع لبنان سيكون مختصراً. وهذا نوع من العقوبة التي ستفرضها فرنسا على لبنان بـ"المَوْنة". أليست هي "الأم الحنون"؟

***

ما أن ختم الفرنسي دوكان جولته حتى أطلّ الأميركي ​ديفيد ساترفيلد​، الديبلوماسي المحنّك، العارف بلبنان وبغالبية السياسيين والمسؤولين عن كثب، من خلال عمله كسفير في بيروت، والذي يقيم علاقات طيبة مع الكثيرين.

مهمّة ساترفيلد ربما تكون أكثر دقّة من مهمة دوكان، لأنها لا تقتصر على الاقتصاد والإدارة، بل تتعداهما إلى ملفات الأمن والسياسة والمسائل التي يصنِّفها الأميركيون في خانة الإرهاب. ويُفترض أن يمهِّد ساترفيلد لزيارة يقوم بها وزير الخارجية مايك بومبيو أواخر الشهر الجاري لبيروت.

لم يأتِ ساترفيلد ليناقش إطلاقاً، كما يقول المطلعون، بل ليبلغ المسؤولين بضرورة التزام مواقف أكثر جدّية في بعض المسائل الحسّاسة. ولا سيما الشفافية في الإدارة اللبنانية، لأن ذلك يرتبط بملف العقوبات الأميركية.

الإدارة الأميركية تولي هذا الأمر أهمية فائقة، وهي تعتبر أن القطاع المصرفي اللبناني يلتزم إجمالاً بمتطلبات القانون الأميركي، لكن هناك ثغرات يجب سدُّها لتجنّب الأسوأ، علماً أن هناك دعاوى رفعها أميركيون على مؤسسات مصرفية لبنانية في نيويورك.

في تقدير الأميركيين أن الفساد في الإدارة اللبنانية وفي النظام الاقتصادي والمالي يمكن أن يشكِّل ثغرة في هذا المجال، ويجب الإسراع في سدِّها. وهنا، يلتقي الأميركيون والفرنسيون عند نقطة واحدة هي التخلّص من الفساد في الإدارة اللبنانية.

وأهمية رسالة ساترفيلد أنها تأتي بعد أيام على انعقاد مؤتمر وارسو الذي شاركت فيه 60 دولة وجرى فيه شدّ العصب ضد إيران، وقد غاب عنه لبنان. لكن الإيجابي حتى الآن هو أن ساترفيلد حمل تطميناً للمسؤولين اللبنانيين بأن الدعم الأميركي للبنان، ولا سيما للجيش والمؤسسات الأمنية، مستمرّ بمختلف وجوهه.

وفي الوقت عينه، يستطلع ساترفيلد ما آلت إليه وجهة النظر اللبنانية في ما يتعلق بملف الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، عند الخط الأزرق. وهذا الأمر يدخل ضمن مهمّة ساترفيلد كوسيط أميركي في هذا الملف الحسّاس. ولا يغيب عن زيارة ساترفيلد ملف النازحين وارتباط ذلك بالتحوّلات الآتية داخل سوريا.

***

إذاً، لبنان مُجبر اليوم على تناول الطبق الفرنسي، طبق الإصلاح والشفافية، وإلا فإنه سيجوع ويفقد غطاء "الأم الحنون". وهو مُجبر كذلك على تناول الطبق الأميركي، طبق

العقوبات على "حزب الله" والتزام الشفافية في المؤسسات والقطاع المصرفي، وإلا فإنه سيجوع ويفقد الغطاء الدولي الأقوى. ولا ننسى أن العرب يعلنون أنهم مستعدون لتقديم الطبق الدسم إلى لبنان مجدداً… شرط أن يبتعد عن المطبخ الإيراني.

***

ومشكلتنا أننا اعتدنا على الاستعانة بالخارج دائماً. فنحن نستعين بفرنسا والولايات المتحدة والعرب والشرق والغرب لحلّ أزماتنا السياسية والاقتصادية والأمنية. وحتى عندما نتوافق على تشكيل حكومة أو انتخابات رئاسية أو نيابية، تأتينا "كلمة السرّ من الخارج"، ولا نشعر بالإحراج.

***

مَن يتكلّم كثيراً لا يفعل، ومَن يفعل كثيراً لا يتكلَّم.

وبناء على هذه القاعدة الذهبية، لا يمكن أن يتفاءل الناس بالضجيج الهائل الذي أثاره السياسيون عندنا حول الفساد، ولا أن يقتنعوا بأن "أصدقاء الفساد" منذ سنوات وسنوات إنقلبوا فجأة عليه وتحوّلوا ملائكةً وإصلاحيين.

ولكي نقول كلاماً أكثر دقّة، فإن بعض اللبنانيين كادوا أن يصَدِّقوا أن هذه الفئة من السياسيين ربما استفاق ضميرها الوطني، ولو في وقت متأخّر، وأنها اقتنعت باقتلاع الفساد، بعدما رأت كيف وصل البلد إلى الإنهيار وكيف أن الهيكل بدأ ينذر بالسقوط على رؤوس الجميع.

ولكن، تبيَّن أن لا علاقة للضمير بهذا الأمر، عند كثيرين، وأن هاجس هؤلاء هو فقط تحصيل المساعدات، التي هي في الواقع ديون إضافية، لتستمرّ الدولة "واقفة على رِجْلَيها".

فإذا وقعت الدولة، تموت "البقرة الحلوب" التي يستفيد هؤلاء من خيراتها، والتي يريدونها أن تبقى على قيد الحياة… إلى أن تقع ذات يومٍ ويكثر حولها السلّاخون. ويكون هؤلاء السياسيون قد أصيبوا بالتخمة من كثرة الفساد هُم وجماعاتهم ومحاسيبهم.

عندما تقع البقرة، معظم هؤلاء السياسيين سيكونون سلّاخين. ولكن، في الخارج، هناك سلّاخون كثُر ينتظرون لبنان "على الكوع"، فإذا وقع تحت وطأة الفساد، فلن يتردّدوا في فرض الوصايات عليه، وفق ما تقتضيه المصالح في منطقة حبلى بالتحوُّلات والمفاجآت.

***

الفساد هو الذي سيقودُ البلد إلى الوصايات الجديدة. فهل نقتُلُه قبل أن يقتلَنا؟