رئيس ​الحكومة​ الأسبق ​فؤاد السنيورة​ "خط أحمر". قالها مفتي الجمهورية ​الشيخ عبد اللطيف دريان​ بصراحةٍ متناهية، معتبراً الأخير "رجل دولة بامتياز أعاد إلى مالية الدولة الشفافية والصدق، وقيمة وقامة كبيرة نعتزّ بها وندافع عنها ضدّ أيّ افتراء".

كلام دريان الذي جاء في مفارقة "مدروسة" من قلب ​السراي الحكومي​، بعد لقاء رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، أتى في ضوء "الحملة" على السنيورة، على خلفيّة ملفّات الحسابات الماليّة والفساد الإداري، التي أثارها خصومٌ للرجل أخيراً، في مقدّمهم "​حزب الله​"، بمساندةٍ مُعلنة أو غير مُعلنة من "​التيار الوطني الحر​".

اختصر المفتي دريان الموقف. السنيورة "خط أحمر"، موقف أتى مكمّلاً أصلاً لموقف "​تيار المستقبل​"، الذي لم يتردّد في اعتبار السنيورة، "الطائفة". وبالنتيجة، لا شكّ أنّ لائحة "الخطوط الحمراء" السياسية والمذهبية ستكون طويلة، في حال قرّر أحدهم المضيّ في "لعبة" ​مكافحة الفساد​، التي يبدو أنّها تحوّلت إلى "موضة الموسم" لا أكثر...

خطوط حمراء بالجملة

على مدى اليومين الماضيين، قيل الكثير عن "الخط الأحمر" الذي ظلّلت به ​دار الإفتاء​، رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، في مواجهة "الحملة" التي تُشَنّ عليه، بمُعزَلٍ عمّا إذا كان الرجل "بريئاً" بالفعل من الاتهامات التي تُسنَد إليه، أم كان "مرتكباً" في مكانٍ ما، عن قصد أو غير قصد. وخير دليلٍ على ذلك أنّ الدفاع عن السنيورة، ولو استند إلى كونه "رجل دولة بامتياز"، لم يُقرَن في أيّ جانبٍ من جوانبه، بالدعوة إلى الاحتكام إلى ​القضاء​ مثلاً، علماً أنّ السنيورة نفسه لم يحسم الموقف الذي يمكن أن يتّخذه في حال وصول الأمور إلى هذا الدرك، وهو ما يبقى مستبعَداً.

بيد أنّ "الخط الأحمر" الذي شكّل "درع حماية" للسنيورة، ليس الأول الذي يتحصّن به السنيورة نفسه. في العام 2006، في زمن المفتي السابق ​محمد رشيد قباني​، وقبل "الطلاق" الذي وقع بينه وبين "تيار المستقبل"، حظي السنيورة بـ"خط أحمر" مماثل، في مواجهة التحركات الشعبيّة المناهضة له. يذكر الجميع كيف أنّ قباني حضر إلى السراي، وأمّ المصلّين داخله بحضور السنيورة، في "رسالة" أريد من خلالها القول لكلّ المتظاهرين ضدّ الرجل والداعين إلى "رحيله"، إنّ المرجعية الدينية معه، وإنه "خط أحمر"، بمعنى أنّه لا يجوز إسقاطه بأيّ شكلٍ من الأشكال، ولو أدّى ذلك إلى "تثبيت" وقوف المفتي إلى جانب فريقٍ من "الطائفة" في مواجهة آخر.

إلا أنّ كلمة حقّ يُقال، أنّ السنيورة ليس "الخط الأحمر" الوحيد في ​لبنان​، لا في السابق ولا في القادم من الأيام، ولعلّ عبارة "خط أحمر" التي وردت على لسان "زعماء ​الطوائف​" في البلد مراراً وتكراراً، كافية للتأكيد على ذلك. قالها يوماً الأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​، في مواجهة الحرب على مخيم "نهر البارد"، وقالها رئيس الحكومة سعد الحريري مراراً في إشارة إلى ​اتفاق الطائف​، وقالها ويقولها كثيرون غيرهم، كلما شعروا بخطرٍ ما يهدّد مصالحهم، وهو ما يرجَّح أن يحصل من جديد إذا ما تقرّر المضيّ في معركة مكافحة الفساد، خصوصاً أنّ لكلّ متهمٍ مفترض مرجعياته القادرة على تحويله إلى "خط أحمر" بضربة قلم.

خلل في الاستراتيجية؟!

يقود ما سبق إلى القول، من دون مبالغة، إنّ معركة مكافحة الفساد انتهت قبل أن تبدأ، بقوة "الخطوط الحمر". باختصار، فإنّ الخط الأحمر الذي ظلّلت المرجعية الدينية السنيورة به، ستظلل به أيّ مرجعيّة دينيّة أو سياسيّة، أيّ متّهَم من "جسمها"، بغضّ النظر عمّا إذا كان نظيف الكفّ أم فاسداً ومشبوهاً.

وفي هذا السياق، يتحدّث البعض عن خللٍ جدّي في "الاستراتيجية" أفرغ معركة مكافحة الفساد من مضمونها، ويضعون انطلاقاً من ذلك، اللوم على "حزب الله" الذي اختار أن يدشّن حملته، بمواجهة خصمٍ سياسيّ ومذهبيّ بحجم ووزن السنيورة، ما أوحى وكأنّ العملية "تصفية حسابات" لا أكثر، تعود إلى ​حرب تموز​ وما قبلها وما بعدها.

ومع أنّ "الحزب" يدافع عن نفسه بالقول إنّ ملفّ الحسابات الماليّة الذي أثاره من دون تسمية السنيورة بالاسم، هو مفصليّ ولا غبار حوله، وأنّه حجر أساس وخطوة ضروريّة بل واجبة في ملف الإصلاح، فإنّ الرأي المضاد يقول بأنّ الحزب، لو كان جدياً، كان بإمكانه أن يبدأ من داخل "بيته"، خصوصاً أنّه سبق أن أعلن أنّه أعدّ ملفّاتٍ تشمل الجميع من دون استثناء.

لا شكّ أنّ الفساد عابرٌ للطوائف، لكنّ أحداً لا يعتقد أنّ "حزب الله" مثلاً سيلجأ إلى إثارة أيّ ملفٍ يحرجه مع أصدقائه وحلفائه مثلاً، مع أنّ الساحة السياسية مليئة بمثل هذه الملفات، بغضّ النظر عن صدقيتها. المشكلة ببساطة أنّ "الخط الأحمر" الذي استهجنه كثيرون بعدما احتمى به السنيورة، سيكونون هم قادرين على "ابتكاره" متى تغيّر نوع الاستهداف.

بمعنى آخر، يختصر البعض الأمر بأسئلة بسيطة ولكن جوهريّة، فماذا لو قرّر "تيار المستقبل" فتح ملفّاتٍ ضدّ شخصيّات في "حزب الله" مثلاً، بمُعزَلٍ أيضاً عن "صدقيّتها"؟ وأبعد من ذلك، ماذا لو استعاد "التيار الوطني الحر" صراعه مع رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​، وفتح ملفّاتٍ في مواجهته؟ ألن يحوّل مستهجنو خط السنيورة الأحمر، بري إلى "خط أحمر" لا يجوز الاقتراب منه، من دون قبول الاحتكام إلى القضاء أيضاً وأيضاً؟!

إنجاز "شكليّ"؟!

انتهت معركة "مكافحة الفساد" قبل أن تبدأ، ولو أصرّ كثيرون، وفي مقدّمهم ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، أنّها مستمرّة حتى محاسبة كلّ الفاسدين، وتحويلهم إلى عبرة لمن لا يعتبر.

قد يكون عون صادقاً في توجّهه هذا، وقد يكون كثر غيره راغبين فعلاً في المضيّ بطريق الإصلاح حتى النهاية، وهو ما لا يتحقق من دون محاكمة المفسدين، إلا أنّ تركيبة البلد لن تسمح بذلك، بخطوط حمراء وفيتوهات، لن يتردّد رافعو شعار "الإصلاح" بفرضها قبل غيرهم.

إزاء ذلك، تبقى حالة وحيدة ربما يراهن عليها السياسيون لشنّ "المعركة". وهي تتلخّص بإيجاد "ضحيّة" ما، لم تعد تحظى برضا "المرجعيات" الدينية والسياسية، لتمرّدها عليها أو تغريدها خارج سربها. إلا أنّ أيّ إنجاز من هذا النوع سيكون "شكلياً"، يكرّس "عبرة" مختلفة تصبّ في خدمة "زعماء الطوائف"، بما يناقض الهدف الأصلي من "المعركة"...