كل الأنظار كانت أمس مشدودة إلى الكلام الذي أدلى به المدير العام ل​وزارة المال​ية آلان بيفاني. ولطالما أراد اللبنانيون أن يسمعوا من هذا الخبير المالي والإداري والمحاسبي، والبعيد عن السياسة، رأياً أو مداخلة في ملف الفساد المفتوح والأرقام المتضاربة هنا وهناك، منذ سنوات. لكنه دائماً كان يردّد: أنا أقوم بواجبي المهني، بأمانة وضمير، وأما المساجلات والمهاترات فمتروكة للسياسيين.

ولكن، يقول بيفاني إنه اضطر إلى "بقّ البحصة"، وإنه وقف اضطرارياً في موقع الدفاع عن النفس. وعندما سُئل في مؤتمره الصحافي: هل حصلتَ على إذنٍ من وزير المال للكلام، قال: "اتركوا هذا الأمر، فهو بيني وبين معاليه. ولكن ما أفعله اليوم هو ممارسة حقّي المقدس في الردّ على اتهامٍ خطير وجَّهه إليّ أحدهم، إذ قال إنني في الوزارة لم أقم بواجبي المهني في ما يتعلق بالحسابات". وفهم من الرأي العام ان الرئيس ​فؤاد السنيورة​ هو المعني بالأمر.

لقد حرص بيفاني في المؤتمر على القول: "ضمن عملي كمدير، ليست لي مرجعية سياسية. وأما خارج الإدارة، فكل شخص له الحريّة في أن يمارس حقِّه".

ولكن، نحن في لبنان ولسنا في السويد. والأرجح أن المدير الشاب الشفاف لم يكن ليتمكّن من إِسماعِ صوتِه لولا تلقّيه الدعم من أرفع مرجعية في الحكم، ​الرئيس ميشال عون​. وهكذا، فإن الأزمة باقية في إطارها السياسي، وتنذر بالتصاعد حتى الانفجار.

***

بكلمة أخرى، هناك "تسونامي" بدأ يتشكَّل نتيجة مجموعة من الزلازل التي وقعت أو ستقع:

في البداية، تحرَّك زلزال الفساد النائم منذ عقدين ونيف بضغط فرنسي ودولي، تحت التهديد بالحرمان من أموال "سيدر".

ولأن "القلّة تولِّد النقار"، بدأ الزلزال الثاني بمنازعات عنيفة بين القوى السياسية التي لطالما أمسكت بالإدارة، فأخذ كل منها يرمي المسؤولية على الآخرين. وسارعت

المرجعيات السياسية والطائفية إلى حماية هذا أو ذاك، ورسْمِ الخطوط الحمر منعاً لمحاسبته.

وأما الزلزال الثالث الذي سيستكمل مشهد التسونامي فقد أطلقه بيفاني الذي ردّ كرة النار إلى ملعب السياسيين وأصحاب القرار والنفوذ في وزارة المال والكثير من المواقع والأجهزة والمؤسسات. فالفضائح التي كشف عنها وأرفقها بالصور، تبدو كبيرة وخطيرة. وهي بالتأكيد ستسبِّب المزيد من الزلازل.

والبعض يقول: إذا استمرّ هذا التسونامي يمكن القول إن الأمواج العاتية ستكشف الكثير من الأشياء التي جرى إخفاؤها منذ ربع قرن وأكثر، وستهزّ الكثير من الذين أختبأوا حتى اليوم. فهل السياسيون قادرون على تحمُّل تسونامي بهذه القوة، ومَن هو القادر على البقاء واقفاً على رِجليه في المواجهة؟

***

نحن كمواطنين أكلنا الهدر والفساد وشتت عائلاتنا وأجبر الكثير منا على الهجرة وعلى الاقفال.

وكمراقبين نأخذ الموضوع بمضمونه الحسابي الصرف ولسنا من أهل جنة الحكم السياسية، بل نتعاطف مع آلان بيفاني بكفاءته فقط لا غير.

والأمر بالنهاية يعود الى ​مجلس النواب​ واللجان المختصة ومن ثم الى القضاء لتنجلي الحقائق والوقائع.

نحن كمواطنين لا نملك الأدلة والبراهين والوثائق التي تشرح ما حصل، ولا يهمنا سوى الوضع المعيشي والاجتماعي والمهني والتربوي والبيئي الذي يعيشه كل لبناني.

لكننا استمعنا أمس إلى بيفاني يقول: لقد منعوني من التكلّم لفترات طويلة. وعملوا على تغييب دوري. وأنا لم أنبطح، وتعرّضت لمحاولات ترغيب وترهيب وسألوا "كم هو سِعري"؟ وهنا نؤكد على كل كلمة قالها لاننا نعرفه عن كثب، وندرك مزاياه وتفانيه للعمل وحرصه على المال العام وفعلاً نقول: آلان بيفاني "ليس له سعر" سوى اخلاقيته وشفافيته ومن لديه أكثر فليتحفنا.

ويسأل: يا مَن تتهمني اليوم بعدم قيامي بواجبي، وقد كنتَ تتولّى الوزارة على مدى عشر سنوات، هل كنتَ ستتهاون معي لو قصَّرت؟ وهل طلبتَ مني إنجاز الحسابات أم تركتَ

ذلك في أيدي جماعتِك؟ أولَيْس غريباً أن يُهيمِن على الوزارة المحسوبون والمستشارون وسواهم في تلك الفترة؟

يقول أيضاً: قمتُ بكل العمل المطلوب مني على أكمل وجه من الناحية المحاسبية، ومستعدّ لشرح التفاصيل. والباقي يصبح من عمل الآخرين ومؤسسات الرقابة. ولا علاقة لي لا من قريب ولا من بعيد بأي مواجهة سياسية. وهدفي هو فقط إظهار أنني قمت بواجبي على أكمل وجه.

لقد أجرى بيفاني مكاشفة منطقية إنتظرها الناس، ومن أخطر ما قاله: لقد جرى توزيع الهبات بلا حسيب أو رقيب، وبأوامر اخترعت المراسيم الوهمية.

وأما الـ11 مليار دولار فمعروف مصيرها "قرش بقرش"، وليس فيها ما يثير القلق.

لكن الرواية التي تقشعرّ لها الأبدان، والمرفقة بالصُور، هي اكتشاف وثائق ومستندات مرمية "اضطررنا إلى كسر الجدار للوصول إليها"، وقد وصلت إليها المياه ونهشت منها الجرذان!

***

في المواجهة، يمتلك بيفاني رصيداً كبيراً من الصدقية. فهو على مدى سنوات طويلة من عمله في الوزارة كان يترفّع عن التحدّث عن نفسه وإنجازاته، مع أن الخبراء الحقيقيين يدركون أنه هو الدماغ المحاسبي والإداري الخلاّق.

كثيرون لا يعرفون أن هذا الشاب الذي يسهر الليالي في الوزارة، في أصعب الظروف وأكثرها حراجة، مالياً وسياسياً وإدارياً، يتقاضى راتباً يستحقّ أكبر منه بكثير، إذا ما قيس بأي موظف من أولئك الذين يكدِّسون الأموال في مؤسسات هذه الدولة المنكوبة.

بيفاني المتفوِّق في دراسته، حامل الدكتوراه في الاقتصاد من السوربون والشهادات العليا في الهندسة، واختصاصات عدّة من أرقى الجامعات، والذي حظي بجوائز وأوسمة عالمية، معروف عنه أنه شاب عصاميّ صنع نفسه ومستقبله، بالتعاون مع زوجته ساندرا التي تعمل أيضا بكل ضمير بالمعدات الطبية. ليوفِّرا لأولادهما أفضل تربية صالحة وشريفة.

ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا انتفض بيفاني للدفاع عن نفسه وسمعته الأخلاقية والمهنية التي تعب كثيراً وضحّى من أجل تكوينها.

***

الأخطر اليوم هو ما نسمعه من أن غالبية القوى السياسية ملوَّثة بالفساد، بشكل أو بآخر، وفي مراحل معينة أو أخرى، وأن مسؤولاً واحداً إذا دخل إلى السجن سيقوم بكشف الجميع وجرِّهم وراءه.

لذلك، يبقى السؤال: هل يستمرّ تسونامي محاربة الفساد حتى يصل إلى هذه الخواتيم الدراماتيكية؟ السؤال والجواب والأمر ل​رئيس الجمهورية​ العماد ميشال عون فقط لا غير.

وإذا كان من أحد يريد وقفه وتجميده، فهل يستطيع ذلك ما دام الضغط الدولي يشتدّ على لبنان في مسائل الفساد، تحت طائلة قطع المساعدات وإفلاس البلد؟

على ما يبدو، الآتي أعظم. وليس سهلاً ما ينتظر لبنان وطاقم السياسيين في المرحلة المقبلة.

كلمة أخيرة: قمتَ آلان بيفاني بواجبك المهني والوطني حماك الله وأكثر من أمثالك.