من حقّ الفرنسيين وسواهم أَلاّ يصدِّقونا. فنحن مشَينا وفق ما يقول المثل: "أول دخولو شمعة عَ طولو". وبدلاً من التقشُّف الموعود، أقرّ مجلس الوزراء الدرجات الست للأساتذة… وبغض النظر عن أحقية هذه القرارات أو عدمها، يجب أن نسأل: إذاً، أين سيبدأ التقشُّف؟

وبالأحرى، كيف تريدون من العقل الفرنسي الذي لا يؤمن إلا بالعلم والمحاسبة والإدارة الحديثة، ولا يصدِّق الأقوال بل الأفعال، أن يقتنع بأننا ذاهبون إلى جنّة الإصلاح والمحاسبة والرقابة والشفافية؟

نقول ذلك بمناسبة الموسم الجديد للتعيينات. وال​لبنان​يون جميعاً يعرفون كيف "تُطَبْخُ" هذه التعيينات. وبالتأكيد، رائحةُ هذا الطبق "الشهيّ" وصلت إلى الجهات الدولية التي يراهن لبنان على تحصيل المساعدات منها. والتعيينات دليل جديد على أننا لم "نتحسَّن"، وأن منطق ​المحاصصة​ حيٌّ يُرزَق، وتالياً، "لا إصلاح ولا مَن يُصلِحون"!

ويقال إن الصفقة الشاملة لها أبعاد سياسية مستقبلية أيضاً، كما لها أبعاد في تقاسم التعيينات والتحكّم بالقطاعات التي ستأتيها المساعدات من مؤتمر "سيدر"، ولا سيما محطات الكهرباء سواء في دير عمار أو في الزهراني. ويتردّد أن بعض الأشخاص المحددين سيستفيدون أيضاً من التلزيمات؟

ووفق ما يتسرَّب، "الطبخة" جرى تحضيرها بين أقوياء السلطة، تحديداً بين الوزير ​جبران باسيل​ الذي يمثل اليوم أكبر كتلة نيابية والرئيس ​سعد الحريري​. ومع أن الرئيس ​نبيه بري​ اقترح العودة إلى طريقة التعيينات التي اعتُمِدت في العهد السابق، فإن الاتفاقات هذه الأيام جرت خارج مجلس الوزراء، وفي ​باريس​ تحديداً.

وخارج التوافق هناك قوى أخرى بمواقعها وحصصها في الإدارة، وهذا ما يخيف ​الحزب التقدمي الاشتراكي​ و"القوات اللبنانية" وتيار "المردة" الذي يواجه احتمال أن يتمّ المسّ بحصته في ​وزارة الأشغال​.

ولكن، حسب مصادر أن انتزاع حصّة النائب السابق ​سليمان فرنجية​ لن تمرّ مرور الكرام. وإذا لم تتمّ مفاوضته والاتفاق معه، وإذا جرى تجاوزه واعتُمِد خيار التكليف، فستدخل الحكومة في أزمة سياسية، وسيتعطل الكثير من خطواتها في ظرفٍ حسّاس.

وبالعودة إلى "سيدر"، سُمِع أحد المسؤولين يقول في مجلس خاص: "مش عارفين كيف بدنا نلحّق ع اللي طالبينو منا". وهذه العبارة لها ما يبرِّرها. فخلال شهرين أو ثلاثة، أي في المهلة التي حدّدها الموفد الفرنسي ​بيار دوكان​ للمسؤولين اللبنانيين، فأي ورشة تشريعية، وأي قرارات ستتخذها الحكومة لمواكبة قرارات "سيدر" والوفاء بالتزامات المال والإصلاح واحترام المعايير الدولية بالشفافية والمساءلة ومكافحة تبييض الأموال؟

وأين أصبحت آليات التنسيق الموعودة مع الجهات المانحة، وتطوير الموقع الإلكتروني المخصَّص لضمان شفافية التمويل وتنفيذ المشاريع؟ وانطلاقة ورشة الحكومة والجلسات التشريعية، وكيف ستكون الإدارة الحديثة ولو زاد عديد الموظفين المقيمين سعداء في الإدارات والوزارات والمؤسسات 15 ألفاً بدل 5 آلاف.

وليس هناك أخطر من الكلام الذي قاله السفير الفرنسي في لبنان برونو فوشيه، بعد دوكان، في مجلس خاص. فقد خاطب الحضور، وباللغة العربية، قائلاً: لبنان لن يحصل على شيء إذا استمر بالتعاطي غير الجدي مع متطلبات "سيدر". فهو يسير بعكس السير، ويقول إنه يريد خفض عجز الموازنة، والجلسة التشريعية تضع على جدول أعمالها بنوداً تؤدي إلى نفقات إضافية. فكيف سيتم هذا التخفيض؟

وفي أي حال، سيعود دوكان الى ​بيروت​ قبل نهاية الشهر الجاري ليتأكد من المسار الذي سيسلكه اللبنانيون. ووفق ما هو ظاهر، سيكون صعباً إقناعه بتسهيل المساعدات للبنان.

الأنكى هو ما تقوله مصادر عليمة، ومفاده أن لبنان يبذل كل جهوده لتحويل غالبية المساعدات المقررة في "سيدر" إلى مِنَحٍ، ويا ليتها تتحوّل بدلاً من أن تكون قروضاً تلقي بأعبائها على عاتق المالية اللبنانية. ومعلوم أن نحو 7% من مجمل هذه المساعدات هي اليوم مجرد مِنَح لا تستوجب الاستيفاء.

لكن الاتجاه الذي توحي به الجهات المعنية بهذه المساعدات، تشير إلى أن الردود على التمنّي اللبناني بقيت سلبية حتى اليوم. وعلى العكس، هناك مخاوف من ضياع غالبية المساعدات، حتى في شكل قروض. وإذا حصل ذلك، في ظل التقارير السلبية لمؤسسات التصنيف الدولية، فإن لبنان سيكون مقبلاً على مأزق لا يستهان به وينعكس سلباً على واقعه المالي وأسعار سنداته والفوائد.

ويبدو أن بعض الجهات الدولية بدأت تتأثر بالكلام الذي قاله دوكان والذي تؤكده جهات أخرى ك​البنك الدولي​ وسائر المؤسسات الدولية الراعية، وبدأت ملامح هذه التأثيرات تظهر في الأسواق العالمية.

"إذا ابتُليتم بالمعاصي فاستتروا". نتصرَّف وكأننا الولد المدلَّل، الذي يُلقي بـ"دَلَعِه السَمِج" على العالم، فيما العالم منشغل بقضاياه وأزماته الجدّية. وأخشى ما نخشاه أن يتركنا العالم نتخبط بأزماتنا… لعلنا نتعلّم أن الإصلاح ليس مزحة، وأن البلدان التي خرجت من الكبوات الاقتصادية والمالية قدّمت الكثير من التضحيات لتحقيق ذلك.

ولكن، إذا وقعت الواقعة في لبنان، فالناس هم الذين يدفعون الثمن. وأما الذين تقاسموا خيرات البلد في أيام البحبوحة فسيرمون به عندما يصبح هيكلاً عظمياً، ويبحثون لهم عن مكان آخر يتمتّعون فيه بما صنعته أيديهم... هؤلاء، أموالهم الحرام هي وطنهم الحلال!

الأمل الوحيد والأوحد والأصدق هو قرار الرئيس ​ميشال عون​ "بقبع" الفساد من اساسه.

فإن كتب لنا الخلاص ولو بعد حين.سنردد شكراً ميشال عون.