منذ تشكيل ​الحكومة​ ​الجديدة​، تحوّل ​لبنان​ إلى "وجهة أولى" للعديد من الدبلوماسيين الغربيّين، الأميركيين والأوروبيين، لدرجة لا يكاد يمرّ أسبوع من دون أن يحمل معه زيارةً أو أكثر لموفدٍ دوليّ جديد، بجدول أعمال يتلاقى في مكانٍ ما مع "أجندات" نظرائه من الموفدين، ويفترق عنها في مكانٍ آخر.

وإذا كانت ​الولايات المتحدة​ تصدّرت مشهد "الاندفاعة" الدبلوماسية الغربيّة المتزايدة باتجاه لبنان، على أن تتوّجها بزيارةٍ مرتقبةٍ منتصف الشهر الجاري، لوزير خارجيّتها ​مايك بومبيو​ إلى لبنان، بعد زياراتٍ مكثّفة قام بها مسؤولون أميركيون، فإنّ ​أوروبا​ كانت حاضرة بقوة في المشهد، حيث رُصِدت زيارات لافتة لمسؤولين فرنسيين وبريطانيين وألمان.

إزاء ذلك، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام عن "التغيير" في ​السياسة​ الغربيّة تجاه لبنان، بعد مؤشرات "هبوطه" في سلّم الاهتمامات الدوليّة خلال مرحلة ​تصريف الأعمال​، فما سرّ عودة الاهتمام الدوليّ بلبنان اليوم؟ وهل من رسائل "موحّدة" يحملها الموفدون الدوليّون، يمكن أن ترسم ملامح المرحلة أو المواجهة المقبلة؟!.

حركة أميركية لافتة

بدايةً، لا شكّ أنّ وضع كلّ الزيارات الدولية إلى لبنان في إطارٍ واحدٍ غير ممكن، ولو تلاقت الملفّات والأولويات في أكثر من مكان، خصوصاً في ما يتعلق بـ"​حزب الله​" وضرورة مواجهة تزايد نفوذه، بعد دخوله إلى الحكومة بوضعٍ اعتُبِر أقوى من أي وقتٍ مضى، وانخراطه بمعارك داخليّة لطالما نأى بنفسه عنها، على غرار معركة ​مكافحة الفساد​ التي يجنّد لها كلّ طاقته اليوم.

ولعلّ من المنطقيّ أن يتمّ الفصل في هذا السياق، بين اندفاعة الولايات المتحدة والإقبال الأوروبي المتزايد على لبنان، خصوصاً أنّ الدبلوماسية الأميركيّة وحدها، ودون أيّ مساندةٍ تُذكَر، سجّلت حضوراً مكثّفاً لافتاً في لبنان خلال الأسابيع القليلة الماضية، لم يسجّل مثيلٌ له طيلة الأعوام السابقة، على رغم أنّ القلق الأميركي من "حزب الله" وممارساته مثلاً، يعود إلى سنواتٍ طويلةٍ، بدليل أنّ ​العقوبات الأميركية​ على الحزب، المصنّف "إرهابياً" في قاموسها، ليست جديدة لا في الشكل ولا في المضمون.

ويكفي تعداد المسؤولين الأميركيين الذين زاروا لبنان على مدى الشهرين الماضيين، ومعظمهم رفيعو المستوى، ليتحدّث البعض عن حركة "مستغرَبة" بل "مريبة" في مكانٍ ما، علماً أنّ لائحة الضيوف الأميركيين في لبنان شملت في فترةٍ وجيزة كلاً من قائد ​القيادة​ المركزيّة الأميركيّة الجنرال جوزف فوتيل، ونائب وزير ​الخزانة الأميركية​ لشؤون مكافحة ​تمويل الإرهاب​ ​مارشال بيلينغسلي​، ووكيل وزارة ​الخارجية الأميركية​ للشؤون السياسية ​دايفيد هيل​، ومساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى ​ديفيد ساترفيلد​، وصولاً إلى وزير الخارجية الأميركي الذي يصل إلى لبنان خلال أيّام، وفق ما أعلِن.

ولعلّ "الحملة" الإعلاميّة التي رافقت الاندفاعة الأميركيّة تجاه لبنان لعبت دوراً في "تضخيم" دور الزيارات المكثّفة والأهداف الخفيّة من ورائها، خصوصاً أنّها خرقت برأي كثيرين، سقف "التهدئة" الذي تمّ اعتماده لفترة طويلة، وهو ما تجلى خصوصاً من خلال تصريحات السفيرة الأميركيّة ​إليزابيث ريتشارد​ بعيد ​تشكيل الحكومة​، والتي أحدثت "ضجّة" غير مسبوقة في الأوساط الداخليّة، ووُصِفت من جانب كثيرين بأنّها تقع في خانة "التدخل في الشؤون اللبنانيّة"، ما يطرح علامات استفهام عمّا تريده ​واشنطن​ عملياً من لبنان في هذه المرحلة، علماً أنّ السفيرة ريتشارد لطالما كانت توصف بأنّها من "الحمائم" لا "الصقور" في إدارتها.

الأولويات مختلفة

عموماً، لم تكن الساحة اللبنانية حكراً على المسؤولين الأميركيين، على كثرتهم، خلال الأيام الماضية. فخلال أسبوعٍ واحدٍ، حلّ في لبنان، إضافة إلى موفدي الولايات المتحدة، موفدٌ رئاسيّ فرنسيّ هو السفير ​بيار دوكان​، وآخر بريطاني هو وزير الدولة لشؤون ​الشرق الأوسط​ في وزارة الخارجية البريطانيّة اليستر بيرد، وألماني هو وزير الدولة لدى وزارة الخارجيّة الاتحاديّة الألمانية نيلز آنين، بالإضافة إلى آخر الموفدين الرئيس الفرنسي الأسبق ​فرنسوا هولاند​.

بطبيعة الحال، يتلاقى معظم هؤلاء الموفدين على "رؤية" واحدة في الكثير من الملفات، وفي مقدّمها الخشية من تعاظم نفوذ "حزب الله"، وهو ما شكّل عصب الحركة الأميركيّة خصوصاً في لبنان، حيث تشير كلّ التسريبات حول ما دار خلال لقاءات الموفدين الأميركيين إلى أنّ هذا الملف شكّل أولويتهم المُطلقة، إلى جانب الضغط على لبنان للانخراط في مشروع مواجهة ​إيران​، التي توليها الإدارة الأميركيّة الحاليّة اهتماماً استثنائياً. وقد برز هذا الأمر بوضوح أيضاً في الشكل قبل المضمون، من خلال "فحوى" اللقاءات التي قام بها الزائر الأخير ساترفيلد مثلاً، والذي استثنى من لقاءاته شخصيّات أساسيّة، في مقدّمها ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، ما أوحى بوجود "امتعاض" أميركي من الرئيس، ولو ربطه البعض بـ"كيمياء مفقودة" بين ساترفيلد شخصياً وعون.

وإذا كان البريطانيّون التقوا مع الأميركيين في هذه النقطة، وإن كان الهدف الأساسي لزيارتهم "تطمين" الدولة اللبنانيّة بأنّ القرار الأخير بحظر "حزب الله" بالكامل وتصنيفه "منظمة إرهابيّة"، بعيداً عن الفصل الأوروبي التقليدي بين جناحين عسكري وسياسي، لن يؤثّر في المبدأ على العلاقات بين ​المملكة المتحدة​ ولبنان كدولتين تربطهما علاقات تاريخيّة، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ الأولويات بين الموفدين الغربيّين ليست واحدة، وأنّ لدى الأوروبيين ملفّاتٍ أخرى تهمّهم، عشيّة بدء الآليات التطبيقية لمؤتمر "سيدر" الذي لا يزال حبراً على ورق، مع اقتراب ذكرى مرور عام على عقده، تحت عنوان دعم النهضة الاقتصاديّة للبنان.

وإذا كان المؤتمر حضر بحيثياته وتفاصيله خصوصاً من خلال زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي دوكان، الذي قيل الكثير عن "إنذار" حمله بإمكان ضياع أموال "سيدر" في حال التأخّر أكثر في تطبيق "الإصلاحات" التي وعد بها ​اللبنانيون​، فإنّ مؤشّراتٍ كثيرة تؤكد أنّ ملفّ ​النازحين السوريين​ لا يزال يحظى بالأولويّة على المستوى الأوروبي، لأكثر من سبب، أولها التصريحات المتكرّرة للجانب الرسّمي اللبناني حول ضرورة إعادة النازحين أو ترحيلهم، وعدم انتظار الحلّ السياسيّ في ​سوريا​، وهو ما يشكّل خشية كبيرة لأوروبا، فضلاً عن وجود مسعى دولي في ثني لبنان عن المضيّ بمسار "التطبيع" مع النظام السوريّ الحاليّ، وهو المسعى الذي سبق أن "فرمل" الاندفاعة العربيّة والخليجيّة تجاه سوريا، والتي كانت ملامحها بدأت بالظهور نهاية العام الماضي.

مواجهة ساخنة جديدة؟!

فجأة ومن دون سابق إنذار، عاد لبنان إلى سلّم الاهتمام الدولي، بعدما كان في القعر. قد يكون تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة سبباً مباشراً لذلك، خصوصاً أنّ لبنان بقي على الهامش لأشهرٍ طويلة من دون حكومةٍ أصيلةٍ، ليعود إلى دائرة الضوء مع تشكيل الحكومة، وانطلاقه بعملية إصلاحٍ كان اتفق عليها أصلاً مع الغرب، ولا سيما الدول الأوروبيّة.

وإذا كان تكثيف الزيارات الغربيّة إلى لبنان يُشعِر البعض بالارتياح، باعتبار أنّه يعكس اهتماماً به، فإنّه برأي كثيرين يمكن أن يتحوّل من "نعمة" إلى "نقمة"، خصوصاً أنّ أحداً لا يستطيع أن يتكهّن بـ"النوايا" الغربيّة والدوليّة، والتي قد لا تكون بريئة، وسط خشيةٍ متزايدة بأن يكون الإقليم مقبلاً على مواجهةٍ ساخنةٍ جديدةٍ، لا يريد اللبنانيون أن يكونوا "صندوق بريد" جديداً على خطّها، ولو تطلّب ذلك ​التمديد​ لـ"النأي بالنفس"، مع كلّ علّاته!؟.