بغضّ النظر عما تشهده الجزائر هذه الأيام من احتدام في الصراع الداخلي بين القوى السياسية المختلفة إنْ كانت في السلطة أو في المعارضة على خلفية الانتخابات الرئاسية وترشح الرئيس ​عبد العزيز بوتفليقة​ لولاية خامسة ورفض ذلك من قبل المعارضة لكونه يعاني من المرض، وبالتالي عدم القدرة على إدارة البلاد… بغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ هذه التطورات الداخلية فتحت عيون القوى الاستعمارية ووجدت فيها الفرصة كي تتدخل في الأحداث الجارية وتعمل على ركوب موجة التظاهرات وإعطائها بعداً مستمراً فوضوياً للإطاحة، ليس فقط بترشيح بوتفليقة، وإنما لإسقاط حكم حزب جبهة التحرير الجزائري ومن يشترك معه من قوى سياسية، لانتهاجه سياسات مستقلة اقتصادياً ووطنياً وقومياً…

فالجمهورية الجزائرية تتميّز بكونها جمهورية اجتماعية تتمتع ب​الاستقلال​ الوطني، بنيت بعد الثورة، حيث تملك الدولة قطاعاً عاماً كبيراً، فيه مؤسسات ومصانع إنتاجية، وتقوم الدولة بتأمين التعليم والطبابة للشعب مجاناً، في حين بنت المساكن لملايين الجزائريين منذ انتصار الثورة وحتى اليوم، وعلى صعيد السياسة الاقتصادية رفضت الجزائر انتهاج السياسات الليبرالية الريعية وحافظت على نموذجها الاقتصادي المستقلّ المستند إلى دعم الإنتاج الوطني وتعزيز ​القطاع العام​، أما على صعيد السياسات الوطنية والقومية فإنّ الجزائر تميّزت بمواقفها الداعمة للمقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني ورفض الغزو الأميركي للعراق، ودعم القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني في كلّ المراحل ورفض سياسات التطبيع مع عدو الأمة العدو الصهيوني، حيث يعتبر الشعب الجزائري نفسه توأماً لشعب فلسطين، وكذلك وقفت الجزائر إلى جانب سورية ضدّ ما تعرّضت له من حرب إرهابية عانت منها هي أيضاً في تسعينيات القرن الماضي.. ولأنّ الجزائر تنتهج مثل هذه السياسات المستقلة والرافضة للاحتلال والسياسات الاستعمارية وتحافظ على خطها التحرري الذي جسّدته الثورة الجزائرية، فإنّ الدول الاستعمارية وفي الطليعة الولايات المتحدة و​فرنسا​ وبالتأكيد كيان العدو الصهيوني يسعون إلى النيل من استقلال الجزائر وإسقاط دولتها الوطنية المستقلة، وهم وجدوا في الانتخابات الرئاسية فرصة لأجل الدخول على الخط وركوب موجة ​الحراك الشعبي​ والعمل على تغذيته تحت عنوان مواجهة الاستبداد ورفض ترشيح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة…

وهذا ما يتجسّد في سعي وسائل الإعلام الغربية وتلك التابعة للغرب، التي تحرّض على ربيع جزائري على غرار ما سُمّي ب​الربيع العربي​، ليكون امتداداً له في الجزائر بحيث يؤدّي إلى إسقاط الدولة الوطنية بما تمثله من خط وطني وقومي وسياسات اجتماعية، أو دفع الجزائر إلى أتون الفوضى وصولاً إلى إشعال الفتنة بين الجزائريين وتدمير دولتهم الوطنية على غرار ما حصل في ​ليبيا​، وإذا لم يتمّ ذلك فعلى الأقلّ استنزاف الجزائر وتدمير اقتصادها ومؤسّساتها لمحاولة إخضاعها للسياسات الاستعمارية الغربية، على غرار ما حصل في سورية، حيث لا زالت الولايات المتحدة والدول الأوروبية تحاول، بعد ثماني سنوات من الحرب الإرهابية التي شنّتها على سورية عبر وكلائها المأجورين وفشلها في إسقاط الدولة الوطنية، تحاول أن تفرض شروطها وإملاءاتها السياسية لحلّ الأزمة، والقاضية بإخضاع سورية وتفكيك دولتها الوطنية عبر محاولة فرض دستور يتعامل مع السوريين كطوائف ومذاهب وأعراق على غرار ما حصل في العراق وقبل ذلك في لبنان…

وما نقوله ليس تحليلاً لأهداف القوى الاستعمارية التي تطمح إلى إعادة الجزائر إلى أحضانها وجعلها تدور في فلكها، وبالتالي الانتقام من ثورة المليون ونصف مليون شهيد التي حرّرت الجزائر من المستعمرين الفرنسيين.. بل يستند إلى المؤشرات التالية:

المؤشر الأول: دخول الولايات المتحدة على الخط وإشهار تدخلها في شؤون الجزائر، عبر دعوة ملغومة إلى احترام حقّ التظاهر، في الوقت الذي يتظاهر فيه آلاف الجزائريين بحرية كاملة، منذ أيام عديدة ضدّ ترشّح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة…

وقال المتحدّث باسم ​الخارجية الأميركية​، روبرت بالادينو للصحافيين «نحن نراقب هذه التظاهرات في الجزائر وسنواصل فعل ذلك»، مشدّداً على أنّ «الولايات المتحدة تدعم الشعب الجزائري وحقّه في التظاهر السلمي».

المؤشر الثاني: إفراد معهد واشنطن سلسلة مقالات خاصة تركّز على الجزائر، وكان لافتاً قوله في إحداها «وفي حال أسفرت الانتخابات إما عن عدم استقرار خطير أو فتح غير متوقع للعلاقات، قد ينظر المسؤولون الأميركيون في سبلٍ لتحسين وضعهم من أجل توسيع نطاق مشاركتهم. وفي الوقت نفسه، إذا حثّت واشنطن بهدوء الفصائل المعنية لممارسة ضبط النفس في ما يتعلق بالخلافة، يمكن أن يساعد ذلك على تهدئة التوترات. وبالمثل، فإنّ الإشارة إلى وجود رغبة أكبر في دعم الشباب الجزائريين النشطين في العملية السياسية من شأنها أن تُنشئ نقاشاً جاداً، يمكن أن يؤدّي بدوره إلى تأثير ضئيل بل حقيقي على ​الحملات الانتخابية​ والتصويت اللاحق. وأخيراً، فإنّ التشاور مع شريحة واسعة من الشباب الجزائريين النشطين في منظمات ​المجتمع المدني​ أو دعوة عدد قليل من البرلمانيين لزيارة الولايات المتحدة يمكن أن يشير إلى أنّ واشنطن تنوي تعزيز العلاقة الثنائية حتى لو كانت الجزائر تسير نحو مرحلة ضبابية».

ومثل هذا الكلام يؤشر بوضوح إلى اقتراحات محدّدة للإدارة الأميركية لكيفية التدخل عبر التركيز على دعم الشباب ومجموعات المجتمع المدني والتواصل معهم ودعوة نواب لزيارة واشنطن…

المؤشر الثالث: تركيز الصحف البريطانية على التظاهرات في الجزائر، لا سيما صحيفة «فايننشال تايمز» التي زعمت أنّ الجزائر بيّنت كيف تتشكل «المقاومة ضدّ الاستبداد». وهو نفس الشعار الذي استخدم في سورية للإطاحة بالرئيس الأسد والدولة الوطنية السورية…

وطبعاً استخدمت الثغرات لتحرّض الجزائريين على مواصلة التحرك في الشارع بالقول: حمن المعلوم أنّ بوتفليقة «عاجز تماماً» وهو في الواقع «صورة» يقف خلفها مجموعة من العسكريين ورجال الأعمال والمخابرات، يحكمون البلاد.. وأنّ الجزائريين كانوا يراقبون ما يجري من بعيد، لأنهم لم يتخلصوا من صدمة عقد من الحرب الأهلية في التسعينات، فلم يتحرّكوا حتى عندما انتفض جيرانهم في 2011، ولكن هناك حدوداً للصبر حتى عند الذين تعوّدوا على تحمّل الألم»… وزعمت أنّ مسيرات الجزائريين اليوم دليل على «عودة المقاومة» في العالم، بعدما تراجعت قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتذكر أمثلة على المقاومة في العالم، منها الاحتجاجات في فنزويلا من أجل إسقاط نظام نيكولاس مادورو… بما يؤكد التوجه الغربي الأميركي لشنّ حرب ناعمة مركزة على الدول الوطنية المستقلة مثل الجزائر وفنزويلا وتحوز على ثروات نفطية وغازية كبيرة، في سياق محاولة تعويض الفشل الأميركي الغربي في سورية والعراق واليمن…

هذه المؤشرات بالغة الدلالة على أنّ واشنطن والعواصم الغربية ووسائلها الإعلامية بدأت حملة لتضليل الشباب الجزائري تحت عناوين مقاومة الاستبداد والمطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان.. ويبقى على الجزائريين بكلّ انتماءاتهم في السلطة والمعارضة الانتباه جيداً لهذه الدعاية الغربية وأهدافها وعدم الوقوع أو الانجرار إلى شركها، فتحقيق الإصلاح يجب أن يكون على قاعدة حماية المكتسبات الاجتماعية التي تحققت منذ انتصار الثورة وحتى اليوم والحفاظ على الدولة الوطنية وثوابتها القومية واستقلالها الاقتصادي ورفض وصفات الليبرالية لاستدراج الجزائر إلى فخ التبعية الاقتصادية وسيطرة الشركات الغربية على ثروات الجزائر من نفط وغاز ومعادن ثمينة.