جاءني طالب من ​الأردن​ مقترحاً عنواناً تقليدياً لبحث يتوخّى عبره نيل شهادة الدكتوراه في الإعلام من ​المعهد العالي​ للدكتوراه في ​الجامعة اللبنانية​. إقترحت عليه ميداناً كان يغريني في متابعته وما زلت وأقصد به مصطلح "التنوّع . والتنوّع كنت أفهمه لا بمعناه الأفقي المستخدم الحافل بالتشظيات الكثيرة في الخطاب السياسي في الإعلام اللبناني والعربي حيث طغيان الإنشدادات والإنقسامات المذهبية والإجتماعية وحتّى الدينية بين مكونات المجتمع العربي و​العالم​ي، ولا بالغوص في أبعاد تلك التشظيات وتداعياتها التي لم تتخلّص البشرية بعد من أمراضها وخصوصاً في كوارث ​الربيع العربي​ وإنفلاشه الدموي في بلادنا وبلدان ​أوروبا​ والعالم، بل بمعانيه الإنسانية القديمة/الجديدة التي دمغت نصوص المؤسسات الدولية ووثائقها الطامحة نحو تحقيق العدالة التي ما زالت مستحيلة في الأرض بعد كوارث الحرب العالمية الثانية بكلّ أثقالها.

كنت أقصد أيضاً التنوّع الذي يسحب الإنسان بسرعة البرق من بصمة عينيه وفئة دمه وبصمات أصابعه وجيناته ومستقبله الصحي والعديد من الكشوفات المتلاحقة التي تصبّ كلّها في حقل التنوّع الجزئي الكروموزومي بما يأخذ البحث أو العقل العربي نحو فهم جديد لمعاني قيادة الشعوب والجماعات والأوطان وإستراتيجياتها الغامضة والمتحوّلة في العالم.

طبعاً كانت تأخذني هذه التحولات نحو تلمّس الدمج الحاصل في صيغ تلاقح ​العلوم​ الإنسانية والمحضة في زمنٍ نزلت فيه الفلسفة من عروشها الإغريقية والأوروبية والعربية الإسلامية ولم تتمكّن من مقاربة توحيد البشر في إنسانيتهم أو تجب على أسئلتهم المعقّدة الكثيرة، وكان لا بدّ من اللحاق بالأديان المجموعة والمتمثّلة أمامي في كتاب ضخم بعنوان : Dictionnaire des Religions أي قاموس ​الديانات​ الذي يعود إلى حضارة ​الهند​وس في الهند أي ثلاثة آلاف سنة قبل ​الميلاد​ مصنّفاً العقائد والأفكار بالأحرف الأبجدية من الألف إلى الياء راسماً خوف الإنسان الأبدي والأزلي قبل وصوله إلى الإستلقاء في عالم التوحيد الذي كان يفترض أن يريح البشر من تعبهم وخوافهم وقلقهم إذ حسمت الإجابات عن الأسئلة الفلسفية الصعبةوأخرجته من ​تقديس​ الأساطير والأعاجيب والغرابات إلىفهم مقام الإيمان في صيانة مستقبل الإنسان العاقل.

وكان يقلقني باحثاً جدّياً مع طلاّبي العرب وما زال، من أنّ الأديان لم توحد البشر في مساحاتنا أيضاً لا على العدالة وخيرالرسالات. وكان لا بدّ لنا من تلقّف العلوم والكشوفات العلمية التي خطت مسافات في التقنيات والإختراعات التي حافظت وبنت وشفت الإنسان والطبيعة الحضارات من ناحية لكنّها شوّهتها ودمّرتها من نواحٍ كثيرة أخرى. وكنت أظن وما زلت أن عصر التواصل الإجتماعيالذي أفرزته التكنولوجيا التواصلية الدقيقة اليوم لربّما يمكنه أن يشفي بعضاً من أمراضنا فيوحّد الشعوب أو يقرّبهم على الأقلّ عبر فلش الثقافات فوق الشاشات في عصر تدكفيه الحضاراتعلى إيدي داخلية وخارجية رهيبة في الوقت الذي نعشق فيه تلك التكنولوجيا اليوم ونسرّ به ويلهينا مثل الأطفال وخارج دوائر الإمساك بأنفسنا وببلادنا وتاريخنا.

وشاءت ظروف الطالب الحسنة في الإختيار المقترح بحثاً عن التنوّع في الأردن ، إنهماكي آنذاك في قراءة كتاب ضخم بعنوان:" التنوّع الحيوي، العلم والتنمية"، الصادر عن منظمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة والإتحاد الدولي للعلوم البيولوجية، وهو من تأليف فرانسيسكو دي كاستري وطلال يونس وقد ترجمه إلى العربية العالم الوزير الصديق الدكتور ​مهدي الحافظ​. كنت أعاين وأتعلّم عبر هذا الكتاب الضخم فكرة التنوع من الأسس أو الجذور البيولوجية الأولى للإستدامة والتغيير ثمّ إلى التنوع الوراثي والحيوي في المحيطات العميقة والكشوفات الوراثية وصولاً إلى التنوّع في القرن الحادي والعشرين في بحث إريكيولوجي عن الجوانب الثقافية والأخلاقية التي يمكنها المساهمة في إصلاح الأنظمة والمجتمعات السياسية الفاسدة إذا ما اعتمدت ثقافة موجّهة إلى صفاء الطبيعة وعطاءاتها من الأزهار والثمار والكائنات التي لا تنتهي بتنوّعها.

ناقشالطالب متهيّباً من فكرة التنوع التي بانت مذهبيةمع تبيان مساحة وسائل الإعلام ودورها في توليد أو إشاعة أو طمس فكرة الغنى في التنوّع لكنّه وقع في البعد الأفقي الرائج للتنوّع في ​الشرق الأوسط​ العربي أعني التنوّع بمعناه المذهبي والديني الذي سيكون الجحيم المفتوح على تدمير مستقبل الأجيال التي تتوالد وتشغل هذه المساحة الغنيّة من العالم أرضاً وسماءً. ألسنا حقلاً أنموذجي في تنوع الأشكال لا المضامين بصرف النظر عن التوظيف المعاصر والشائع والمغرض للدين والتعصّب والتخريب المادي والفكري وعلى المستويين العقائدي والسياسي القائم بين دولةٍ وأخرى وشخص وآخر؟نعمل معاً لكنّ الفروقات الفكرية والطموحات البحثية تبقى بيننا أكثر إتّساعاً لا لعدم النوايا لدى ​الطلاب​ والشبابالعرب ولا لقلّةالإعتبارللأبحاث والباحثين العرب، بل لأنّ إنساننا ضعيف لا يصلب إلاّ متمسّكاً بثوابت السماء والنصوص من دون الإطّلاع أو الإقتداء بالحكمة والقوّة الكامنة في تنوّعات ​البيئة​ والطبيعة والكائنات الأخرى.