منذ انتهاء ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة التي مني فيها بهزيمة قاسية، حاول الوزير السابق ​اللواء​ ​أشرف ريفي​ فتح خطوطٍ بالجملة مع رئيس ​الحكومة​ ​سعد الحريري​ أكثر من مرّة، مدافعاً عنه في بعض المواقف، وماداً يده له في مواقف أخرى.

لم يحقّق الرجل مُراده، إذ لم تجد يده الممدودة من يتلقّفها في "​بيت الوسط​"، حيث بدا أنّ الحريري لم يهضم بعد ما يعتبرها "طعنة" تلقاها من ريفي، بعيد "تمرّده" عليه من خلال استقالته الشهيرة من حكومته، وما أعقبها من خصومةٍ حادّة، ومزايداتٍ شعبويّة.

بالأمس فقط، تغيّر كلّ شيء، ووافق الحريري على فتح "صفحة جديدة" مع الوزير السابق. لا شكّ أنّ الانتخابات الفرعيّة المنتظرة في ​طرابلس​ لعبت دوراً في هذه النتيجة، خصوصاً بعد إعلان ريفي صراحةً نيّته الترشّح إليها في مواجهة مرشحة "المستقبل" غير المحصّنة شعبياً، فهل ذهب الحريري "مُكرَهاً" إلى "مصالحة" ريفي؟!.

"تنازلات" الحريري

بالنسبة إلى كثيرين، قد تكون "التسوية" بين رئيس الحكومة وحليفه السابق الذي تحوّل إلى خصم، منتظرة، على رغم كلّ المؤشّرات السلبية التي طبعت علاقتهما منذ انفجارها بعد "تمرّد" اللواء ريفي على رئيس تيار "المستقبل". وإذا كان صحيحاً أنّ ​الانتخابات الفرعية​، والتهديد الذي شعر به "المستقبل"، هي التي حتّمت حصولها اليوم، فإنّ أيّ سببٍ آخر كان يفترض أن يفضي إليها عاجلاً أم آجلاً، كما يؤكدون.

إلا أنّ هذه "التسوية"، بمُعزلٍ عن نتائجها وتجلياتها المنتظرة، لم تأتِ بالمجّان، بل قدّم الحريري على طريقها "تنازلاتٍ" في الشكل والمضمون، هو الذي كان يرفض إعطاء ريفي موعداً للقاءٍ في دارته، فإذا به يقبل في نهاية المطاف الاجتماع به على "أرضٍ محايدة"، تلبيةٍ لما اعتُبِر "شرطاً" من ريفي، هي دارة رئيس الحكومة الأسبق ​فؤاد السنيورة​، "الوسيط" الذي لعب دور "الإخراج" لحصول اللقاء، استناداً ربما إلى دفاع ريفي عنه في حملة "​حزب الله​" ضدّه.

في المضمون أيضاً، يمكن القول إنّ الحريري قدّم "تنازلات جوهرية" على طريق "مصالحته" مع حليفه القديم، من خلال إعلانه فتح "صفحة جديدة" معه، بعد كلّ "العناد" الذي أظهره في الفترة الأخيرة، رفضاً للتطبيع مع ريفي، الذي يعتبر أنّه "طعنه في الظهر"، ولم يتردّد في شنّ "حربٍ إعلاميّة" عليه، بل والتحريض ضدّه، خصوصاً في عزّ "محنته".

وإذا كان البعض ربط توقيت "المصالحة" بزيارة الحريري إلى المملكة العربيّة السعوديّة ولقائه الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، فإنّ أيّ "إيحاء" بأنّها تمّت بناء على طلبٍ أو حتى "تمنٍ" من المملكة لا يبدو شديد الواقعية، باعتبار أنّ الظروف "الانتخابيّة" هي التي فرضت "التوقيت"، بعيداً عن طلبٍ خارجيّ كان تمّ الحديث عنه منذ فترة طويلة، وتحديداً منذ ما قبل الانتخابات النيابية، من دون أن يُترجَم على أرض الواقع.

ريفي "تنازل" أيضاً!

هكذا، توحي الوقائع بأنّ الحريري ربما ذهب "مكرَهاً" إلى مصالحة ريفي في هذا التوقيت، تفادياً للدخول في معركةٍ انتخابيّة لا لزوم لها، وفي غير مكانها، ومن شأنها تضييع البوصلة تماماً، وهو ما بدأ يلوح في الأجواء خلال اليومين الماضيين، مع إعلان "المستقبل" المواجهة مع "حزب الله" في فرعية طرابلس، وردّ محسوبين على ريفي بأنّ الأخير هو الذي يخوض مثل هذه المواجهة، وأنّ الحريري هو حليفٌ للحزب بشكلٍ أو بآخر.

ولعلّ هذه المفارقة بالتحديد تختصر "التنازل" الذي قدّمه ريفي من خلال "مصالحته" مع الحريري، التي تضرب "عمق" خطابه الإعلاميّ على مدى الأسابيع الماضية، قبل وبعد ​تشكيل الحكومة​ ​الجديدة​. وفي هذا السياق، تساءل كثيرون عمّا إذا كان الحريري سيجد اليوم، التبريرات الكافية لسلوك ريفي وسياسته، بعدما كان يتّهمه أمس بـ"خيانة" مبادئ وثوابت "​ثورة الأرز​"، علماً أنّ المعلومات المتوافرة تشير إلى أنّه كان قد أعدّ خطاباً انتخابياً "ثقيلاً" يصوّب على الحريري، لو لم تتمّ المصالحة معه.

وربطاً بالانتخابات الفرعية في طرابلس، "تنازلٌ" ثانٍ قد يكون الأهمّ قدّمه ريفي، الذي لا يخفى على أحد أنّه كان راغباً في "المصالحة" مع الحريري، ويتمثّل بعزوفه عن الترشح إلى الانتخابات الفرعية، التي كان كثيرون يعتقدون أنّها ستشكّل "فرصة" للواء لإعادة الاعتبار لنفسه بعد خسارته في الانتخابات النيابيّة الأخيرة، خصوصاً أنّ المواجهة لم تكن "صعبة" عليه. إلا أنّ وجهة النظر هذه تصطدم برأيٍ آخر يقول بأنّ ريفي لم يكن راغباً في مثل هذه "المخاطرة" التي كان من شأنها أن تهدّد مستقبله السياسيّ برمّته في حال خسارته، ليس لكونه أمام مرشحة لا تُقارَن حيثيّتها بحيثيّته فحسب، ولكن أيضاً لكونه سيكون مجبراً على تبرير هزيمة ثانية في أقلّ من عام، في مهمّة لن تكون سهلة عليه.

من هنا، يقول البعض إنّ "الواقعية السياسية" التي بات ريفي يتمتع بها بعد الانتخابات أكثر بكثير ممّا سبقها، أملت عليه القبول بالانسحاب من معركةٍ غير مضمونة لصالح علاقةٍ سياسيّة قد تؤمّن له رصيداً أهمّ، إلا أنّ ذلك لم يخلُ من "التنازلات" أيضاً، فهو تنازل كذلك عن "شرطه" للانسحاب، الذي لم يتردّد بعض مستشاريه والمقرّبين منه بإعلانه جهاراً في الأيام الماضية. ويقضي هذا الشرط بأنّ أيّ "مبادرة" تؤدي إلى انسحابه من المعركة، يجب أن تنطوي على "انسحاب" مرشحة "المستقبل" ​ديما جمالي​ أيضاً، والاتفاق على مرشح آخر، إلا أنّه وجد نفسه في نهاية المطاف "مبايعاً" لجمالي وداعماً لها، مع أنه كان يجاهر قبل أيام فقط بأنّها "لا تمثّل طرابلس".

ماذا بعد "المصالحة"؟!

في "مصالحة" الحريري وريفي إذاً، تنازلاتٌ متبادلة قدّمها الرجلان، وإن بنسبٍ متفاوتة، بمُعزَلٍ عمّا إذا كان رئيس الحكومة ذهب إليها عن قناعة أو "مُكرَهاً" في نهاية المطاف، باعتبار أنّ كلّ المعطيات تؤكد أنّه لم يكن راغباً فيها بقدر اللواء المتقاعد الذي سعى إليها منذ فترةٍ غير قليلة.

ولكن ثمّة من يقول إنّ الحريري سيكون "الرابح الجدّي" من هذه "المصالحة"، باعتبار أنّها ستضع حداً لـ"مزايداتٍ" من داخل بيته السياسيّ، كان من شأنها تكرار "سيناريو" التراشق غير المجدي الذي شهدته الانتخابات النيابية الأخيرة، فيما سيكون ريفي "الخاسر"، بعد تضييع فرصة إعادة الاعتبار لنفسه، وإنهاء طموحاته "الاستقلاليّة" بشكلٍ أو بآخر.

يبقى أنّ الأيام المقبلة وحدها كفيلة بتحديد صورة ما بعد "المصالحة" التي يرسم كثيرون علامات استفهام أصلاً حول إمكان "صمودها" لما بعد فرعيّة طرابلس، أو "انفجارها" عند أول استحقاقٍ، خصوصاً أنّ التزامات الحريري بموجب ​التسوية الرئاسية​ قد "تفرّق أكثر ممّا تجمع" مع ريفي!.