لم يكن تلويح وزير الخارجية والمغتربين ​جبران باسيل​ بشأن إستقالة وزرائه من الحكومة مسألة عابرة. فرئيس التيار "الوطني الحر" ذكّر من خلال تهديده، رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ بالتسوية السياسية التي صنعاها معاً، وقادت لترؤس الأخير مجلس الوزراء وتأليف حكومة بعد طول إنتظار، وهي تقوم على أساس تسهيل وصول الحريري مقابل تنازلات سياسية يقدّمها "الشيخ سعد" بالمفرّق، تحت طائلة تكليف شخصية أخرى لترؤس حكومة أكثرية، من دون تيار "المستقبل" وحزب "القوات". يستطيع البرتقاليون تنفيذ تهديداتهم في حال وافق "الثنائي الشيعي" وباقي كتل "8 آذار".

يعرف الحريري أن سرّ بقائه ليس منّة من التيار البرتقالي ولا من قوى "8 آذار"، بل نتيجة حاجتهم جميعاً، لوجوده في رئاسة الحكومة، من أجل تأمين تغطية دولية وعربية للبنان، وإبعاده عن تداعيات العقوبات والحصار الإقتصادي. يدرك "الشيخ سعد" عدم توافر شخصية سنّية بديلة منه، قادرة على تأمين تلك الرعاية الخارجية، رغم أن وزن رئيس الحكومة السابق ​نجيب ميقاتي​ سياسيا"، وماليا"، يفوق وزن الحريري، لكن لا يزال "الشيخ سعد" يحظى بالدعم السعودي والفرنسي. علماً أن قوى "8 آذار" تفضّل الحريري على ميقاتي، لأسباب عدة، أبرزها أنّ رئيس "المستقبل" يقدّم تنازلات جوهرية، الأمر الذي لا يُقدم عليه رئيس "العزم" بعد تجارب سابقة معه في هذا السياق.

وعلى هذا الأساس، ترتفع سقوف الخطاب السياسي، على خط بيت الوسط-الرابية، بينما تقف القوى تتفرّج على نزاع الحليفين، فترصد ​معراب​ سير الجدل، من دون تدخّل قواتي، ليقين رئيس "القوات" ​سمير جعجع​ بأن تهديدات باسيل ليست الاّ زوبعة في فنجان، تنتهي بموافقة مرتقبة للحريري على شروط باسيل في ملفات: الكهرباء بإستجرار البواخر، ولو بصيغة معدّلة، التعيينات الإدارية بأن تكون حصة المسيحيين الكبرى للبرتقاليين، و​النازحين السوريين​ لمصلحة حوار بين دمشق وبيروت.

وقد بانت في الساعات الماضية مؤشرات الرضوخ في بيت الوسط، في إستعداد الحريري للتعاون في ملف النازحين وفق خطة وزير الدولة لشؤون النازحين ​صالح الغريب​، لأن الخيارات الأخرى معطّلة، في ظل حديث بدأ يتردّد عن إحجام النازحين العودة لا الطوعية ولا الإجبارية، إلى حد توقّع فيه رئيس تيار "التوحيد العربي" الوزير السابق وئام وهّاب قدوم اكثر من مليون نازح سوري جديد الى لبنان، جرّاء الحصار الإقتصادي والمالي على ​سوريا​، وهذا ما يفرض على الحريري تعديلاً جوهرياً وعملياً في موقفه، يقوم على أساس دعم كل وسيط حكومي او سياسي يتواصل مع دمشق، لتسهيل عودة النازحين السوريين الى ديارهم، كي لا يتحمّل "الشيخ سعد" معنوياً مسؤولية تداعيات ​النزوح السوري​ إلى لبنان. علما ان إيرادات مؤتمر "سيدر" تحلّ جراء الإلتزام اللبناني الرسمي بتشغيل اليد السورية العاملة في لبنان، تمهيداً للتخفيف من عطاءات ​الأمم المتحدة​ للنازحين السوريين.

أمّا بالنسبة الى ملف الكهرباء، فظهر إستعداد "الشيخ سعد" لمناقشة خطة وزيرة الطاقة والمياه ندى البستاني فور تقديمها، ما يعني أنه أصاب هدفين: أولاً، رمى الكرة في ملعب البرتقاليين، وثانياً، أراد أن يأتي الرفض في مجلس الوزراء من غيره، أي من "القوات" و"المردة" و"الثنائي الشيعي" الذين يستطيعون وأد مشروع إستجرار الطاقة عبر البواخر.

بينما يُنتظر أن يتساهل الحريري في ملف التعيينات، مع قناعته بأن "العهد الرئاسي" مضطر لإجراء تعيينات سريعة، تستوجب تنازل البرتقاليين لصالح قوى مسيحية أخرى. لأن عدم الإنتاجية الحكومية ستصيب "العهد" أكثر مما تصيب رئاسة الحكومة، لأنّ الوقت لم يعد يسمح بمناورات أو تجميد ملفات حيوية.

بالمحصّلة، قد يتصلّب الحريري بمواقفه في الشكل، لكنه مضطر للرضوخ في لعبة عض الأصابع، مقابل صمود باسيل الذي بات خبيراً في تلك اللعبة، يستخدم فيها كل الأساليب، بما فيها تهديد رئاسة الحريري للحكومة، وتأليف حكومة أكثرية.