يومًا بعد يومٍ، تتَّسع رُقْعة العَطاشى إِلى مُكافحَة الفَساد في ​لبنان​، ويَتنامى التَّمرُّد على الواقع السَّيِّء، وَسْطَ الحاجَةِ إِلى مُقاربةٍ جَديدةٍ لملفِّ الفَسادِ المُثْقَل بالجَرائِم الماليَّة الَّتي تنمُّ عن "فقْر دمٍ" خُلُقيٍّ، ما يضرُّ بمَصالِح الفاسِدين والمُفْسِدين وضِعاف النُّفوس... ولَعلَّ مَيْدانَ العَمَل واسِعٌ وكَثير التَّشعُّبات...

الانتخابات​ النّيابيَّة

فعَلى صَعيد القانون الانْتِخابيِّ، ومَع تَسْجيل خُطْوةٍ إِلى الأَمام بتَطْبيق القانون الانْتِخابيّ النِّسْبيّ للمرَّة الأُولى في لُبْنان، ما سمح بوصول مَن لَمْ يَكُن القانون الانْتِخابيِّ القديم ليَسْمَح في وصولِهم... وقد باتَ لُبْنان يَحْظى بمَجْلسٍ نِيابيٍّ أَكْثر شَرْعيَّة، وبِبطاقة انْتِخاب بيومتريَّة، كما واسْتَغْنى لُبْنان عن نِظام ورقة التَّصْويت الَّتي يَجْلبها النَّاخِب معَه. كما وسَمحَت الانْتِخابات الأَخيرة للُّبْنانيِّين المُقيمين في الخارج، بالتَّصْويت غِيابيًّا ومِن حَيْثُ هُم، وقد انْتَهت بِذلك مَسْأَلة شائِكة وعالِقة مُنْذ زَمَنٍ. وهُنا جانِبٌ من الحاجَة إِلى "الرَّوتَشَة"، بالنَّظر إِلى العَدد الهَزيل من المُغْتَربين الَّذين مارَسوا حقَّهم الانْتِخابيّ من خارِج حُدود الوَطن (حَوالي 80 أَلْف لبنانيٍّ تَقْريبًا)، وبالتَّالي، فتَأْثير هَؤُلاء انْتِخابيًّا ما زال طفيفًا، وَسْط آلاف النَّاخِبين المَحلِّيين... وفي اختِصارٍ، فالإِصْلاحات مُجْتَمِعةً، تَعْني على الأَرْجح فَسادًا أَقلّ وتَعْبيرًا حقيقيًّا أَكْثر.

إِلى مُحارَبة الفَساد درّ!

وبَعْد إِنْجاز الانْتِخابات وحلِّ مُعْضِلة التَّشْكيلة الحُكوميَّة، بات على المُوْلودَة الجَديدة أَنْ تَضع نُصْب أَعْيُنها ملفّ مُحارَبة الفَساد الشَّائِك... في دولةٍ مُفْلسةٍ، مُهْترِئة، ومَنْهوبة، ومَع وجود أَعْدادٍ هائلةٍ من النَّازِحين، إِضافةً إِلى الشَّعب اللُّبْنانيّ. وعليه يتوزَّع اللُّبنانيُّون بين "حارسٍ للذَّاكرة" و"مُتمرِّدٍ على الواقع الرَّاهن. فالصَّوْت الصَّارخ يُساهِم في عدم الانْغِماس في أَوْحال الفَساد والتَّحصُّن الذَّاتي تجاهَه، وعليه يُبنى على الشَّيْء مُقْتَضاه، ويتمُّ الانْتِقال إِلى مَرحَلةِ التَّمرُّد على الواقع الموجِع!.

وأَمَّا كَلام رئيس الجمهوريَّة العِماد ​ميشال عون​، عن الإِصْرار على المضيِّ قُدمًا في مكافحة الفَساد، فلا التباس فيه. وهو إِلى ذلك ينمُّ عن عَدم تَراجُع مَن أَطْلق يومًا على تَكتُّلَه النِّيابيّ تَسْمية "التَّغيير والإِصلاح"، إِضافةً إِلى ماضي العماد عون المُشرِّف واللافِت في شفافيَّته وصِدْقه ورِفْعة خُلقه...

إِصْرارٌ رِئاسيٌّ

وكلام الرَّئيس يَقْطع الطَّريق أَمام أَيِّ مُحاولةٍ للتَّشْكيك بنيَّة رَأْس الدَّوْلة في مُكافحة الفَساد، كما ويقطَعُها أَيْضًا أَمام ما قد يُحاوله البَعْض، مِن مُحاولاتٍ لتَعْطيل المَسيرة الإِصلاحيَّة. ولكن في المُقابل يَجِب أَلاَّ نُبالِغ في التَّسبُّب بالهَلَع المُبالَغ فيه، من خِلال وَصْف المَسيرة الإِصْلاحيَّة تِلْك، كغولٍ نَهمٍ سيَأْكُل الصَّالح والطَّالحَ على حَدٍّ سَواء. إِذْ ثمَّة مَن يُراهِن على تَعْطيل الفَساد مِن خِلال إِطْلاق الشِّعارات الكَبيرة.

بَيْد أَنَّ الإِصْلاح المَرجوَّ –وهذا ما يُدْرِكه جيّدًا الرَّئيس عون– لا يَكون إِلاَّ مِن خِلال القَضاء، الَّذي يَبْقى المَرْجع الأَساسيَّ للإِصْلاح، والطَّريق الوَحيد لَهُ!. والقَضاء السَّليم، هو الوَحيد القادِر على ضَبْط الإِيْقاع!. كما ويَنْبغي التَّوسُّع في التَّحْقيقات العائِدة إِلى ملفِّ الفَساد، وعَدم الوصول إِلى التَّجنِّي والانْحِراف.

شُروط التَّحْقيق

والتَّحْقيق يَجِب أَلاَّ يتمَّ تحت الضَّغْط أَو في الغُرَف المُسكَّرة، الَّتي لا توحي إِلى الرَّأي العامّ بأَنَّ الوَضْع سَليم... خلافًا لما يَكون عَلَيْه الوَضع حين تتمُّ التَّحْقيقات بِواسطة الضَّابطة العدليَّة.

وثمَّة فَرْقٌ شاسِعٌ بَيْن مَن يُحارِب الفَساد، ومَن يُحارِب النَّاس بوَضْع اليَد على رِقابهم. وأَمَّا الفاسِدون فيُعْزَلون ويُحالون إِلى التَّفْتيش، أَو المُحاكَمات، فاستِرْداد الأَمْوال... والفاسِد هُو شَخْصٌ تورَّط بالفَساد أَو ورَّطَ غَيْرَه.

إِنَّ العَدالة الَّتي يَبْتغيها اللُّبْنانيُّون، لا تسْتأْذِنُ مرجعيَّاتٍ دينيَّةً وحزبيَّةً وسياسيَّةً كلَّما وجُب تَوْقيف مُتورِّطٍ... فالفَساد ليس عُنْصُرًا مَجْهولاً وُلِد فَجْأةً في الفَضاء اللُّبْنانيّ.

وإنَّ لُبْنان أَمام فُرْصةٍ جديَّةٍ لمُكافحة الفَساد، وإِجهاضُها هو قضاءٌ على الوطَن...