يتقاطر الموفدون الآتون من عواصم ​العالم​ إلى ​بيروت​ ويشارك ​لبنان​ في مؤتمرات دولية ويزور المسؤولون اللبنانية عواصم القرار في العالم، وليس خافياً أن ما يسمعه المسؤولون ​اللبنانيون​ ويزعجهم، هو هذا الجمع الغريب بين الإعلان عن دعم ​الدولة اللبنانية​ وقوتها ونهوضها من جهة، والتمسك بالمقابل بمواقف يمكن وصفها بالخشبية، اي التي يبنى جمودها على عناصر غير عقلانية ولا تأخذ بالإعتبار المنطق ولا المتغيّرات ولا الأحداث المحيطة بنا.

المواقف الخشبية في قضيتين رئيستين مصيريتين ووجوديتين بالنسبة للبنان، الأولى هي ملف عودة ​النازحين السوريين​ من لبنان إلى سورية، والثانية هي قضية الإنتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية، التي تبدأ من الإحتفاظ بأراض لبنانية تحت الإحتلال رغم ما نص عليه ​القرار 1701​ من تكليف الأمين العام للأمم المتحدة بحسم أمرها قبل ثلاثة عشر سنة، ومواصلة الإنتهاكات الجوية والبحرية، والسعي للتلاعب بحدود ​المياه​ الإقلمية اللبنانية وما يترتب عليها في ثروات ​النفط والغاز​.

في القضية الأولى، أي قضية النازحين السوريين، يدرك العالم أنّ بقاء هؤلاء النازحين فوق طاقة لبنان، ويدركون أنّ الحرب انحسرت في معظم المناطق السورية، ويدركون أن بعض دولهم قد أعاد العلاقات ب​الدولة السورية​ وأنّ بعضهم الآخر يستعد، وأنّ ممثل ​الحكومة السورية​ لا يزال يختفظ بمقعد بلده في ​الأمم المتحدة​ ويقيم في ​نيويورك​، ويدركون بسبب الجيرة والمصالح ​الإقتصاد​ية الحيوية، أنّ ما يصح في مصالحهم البعيدة عن التاثر، يصح في حال لبنان أكثر، وأنّ ما لا تستطيع تحمله إقتصاداتهم وهياكل دولهم القوية، لا تستطيع طاقات لبنان المحدودة في الديمغرافيا والجغرافيا وقوة الدولة والإقتصاد تحمله حكماً، ورغم ذلك يبيحون لأنفسهم المجاهرة بالحرص على عدم تدفق النازحين إلى بلادهم، بل يشجعون ضمناً الإستقرار في لبنان حرصاً على عدم حدوث مثل هذا التدفق، ويشجعون لبنان بالمقابل على الإحتفاظ بهم، ويأخذون عليه القول أن لا طاقة له على ذلك، ويفتحون قنوات التواصل المتعددة مع الدولة السورية، ويأخذون على لبنان فعل ذلك، وما يكون إسمه دفاعاً عن المصالح العليا للدولة في بلادهم، يصير إسمه عندما يقوم به لبنان، تخلّياً عن الواجب الإنساني.

الذي يحدث في ملف النازحين هو عملياً إحتجاز حرية هؤلاء البشر بقوة الإغراء المادي والتخويف الأمني والسياسي، بإسم حقوق الإنسان، لكن بصورة معاكسة لجوهر حقوق الإنسان وما يقارب توصيف جرائم الإرهاب، التي يقوم توصيف القانون الدولي لها، على إعتبارها كل عمل يقوم على حجز حرية أو إلحاق أذى أو إلقاء الخوف بين فئة من الناس خارج جبهات الحرب، لخدمة أغراض سياسية، أما من زاوية لبنان، فهذا الإحتجاز يحوّل لبنان إلى ساحة مستباحة السيادة بمنعه من العمل على عودة النازحين ومن الإتصال بالدولة السورية، وإجباره على تحمّل التبعات المدمرة للسلوك الذي يطالب بإتباعه على مصالحه العليا، تنفيذاً لأغراض سياسية تخدم مصالح دول أخرى، لا تريد رؤية النازحين عندها، وتسعى لتوظيف قضية نزوحهم في لبنان، لغير مصلحته العليا، لحساب مصلحة أخرى عنوانها الضغط نحو حلّ سياسي للأزمة السورية يرضي الدول الكبرى، وتلك بالتأكيد ليست قضية لبنان، ولن تكون قضيته يوماً، والحال شبيهة بما جرى في قضية ​اللاجئين الفلسطينيين​ يوماً وقيل إنه موقت بإنتظار الحل السياسي، وقد مضى عليه عقود طوال، وخشية لبنان من تكرار الأمر مع النازحين السوريين مشروعة جداً، في ضوء الكلام المعلن عن مشاريع توطين في لبنان تطال الفئتين.

في القضية الثانية، أي قضية الإنتهاكات الإسرائيلية، يريد العالم أن يجعل العنوان معكوساً، فيسميه نفوذ «حزب الله» وسلاحه، والعالم يعلم ويعرف، لكنه لا يريد أن يعترف بأنه كلما تعاظم التهديد الإسرائيلي للبنان زاد نفوذ «حزب الله» وتراجع البحث بمستقبل سلاحه، وأنّ العالم الذي يملك القدرة على لجم إسرائيل عن إنتهاكاتها، ومساعدة لبنان على تثبيت حقوقه وحماية سيادته، عندما لا يفعل ذلك، فهو يقول إما إنه اضعف من فعل ذلك، وعندها سيكون المنطقي ترك لبنان الأشدّ صعفاً يفعل ذلك بطريقته وعدم لومه على ما يسميه العالم نفوذ «حزب الله» وسلاحه، أو أنه لا يريد أن يفعل ذلك، لحسابات تعبّر عن مصالح دوله العليا، إنطلاقاً من صراعات إقليمية ودولية تخوضها هذه الدول، وإذا كان مطلوباً من لبنان تفهّم ذلك، فأضعف الإيمان أن تبادله هذه الدول التفهّم بالتفهّم، فلا تضغط عليه لتقديم تنازلات سيادية في ثرواته البحرية، ولا تحول بينه وبين حماية أجوائه وحدوده البرية، ريثما يصير العالم قادراً على فعل ذلك.

لا يجب أن يشعر لبنان بالحيرة تجاه موقفه من الدفاع عن مصالحه، وقد أثبتت تجاربه مراراً، انه عندما تمسك الدولة بمصالحها أولاً، تزداد قوة، وتصير أقوى من جميع الفرقاء الداخليين والخارجيين على أرضها، وعندما تتخلّى عن مسؤولياتها بدواعي المراعاة لداخلٍ هنا وخارجٍ هناك تحوّل لبنان إلى ساحة، تشرّع للآخرين التصرف فيها كل على هواه.