ثمة بديهية يكررها كثيرون، وهي ليست سوى خداع بصري ناتج عن زاوية غير صحيحة للرؤية، وجوهر هذه البديهية هي أن السيف أصدق إنباءا من الكتب، وأن الكلام والثقافة أعجز من مواجهة خطر إنتشار وتمدد العنف، وأن العنف لا يصده إلا العنف، وان "الرطل بدو رطل ووقية"، بل إن البعض يستهزء بكل كلام عن علاج فكري وثقافي لظواهر العنف المنتشرة في العالم، والشيئ الأكيد أن خطر العنف في العالم ينتقل خلال سنوات القرن الحادي والعشرين، من خطر الحروب بين الدول، التي قد تصح فيها البديهية المذكورة، إلى خطر العنف الذي يهدد به مدنيون مسلحون حياة مدنيين آخرين، ونسميه بالإرهاب .

الإرهاب الذي ضرب في آخر جولاته في ​نيوزيلاندا​، مستهدفا مصلين مسلمين في مسجد، بعدما هدد نوع آخر من الإرهاب قام به مسلمون، حياة مسيحيين ويهود في أوروبا بصورة خاصة، قال للعالم أن الإرهاب عابر للأديان والأعراق والقوميات، وأنه لا أمم أو أديان محصنة بوجه الإرها ، وأن التطور التقني لا يعني تطورا في الوعي الإنساني يحقق الوقاية من الأفكار القائمة على الدم والعنف والقتل، وفي التاريخ نموذج ​ألمانيا​ في عهد هتلر، حيث قمة التطور التقني والعلمي في منتصف القرن العشرين تزامنت مع أشد الأفكار والأيدولوجيات تطرفا وعنصرية، وحيث ثقافة التفوق العرقي أو القومي شكلت مصدر عمليات الإبادة التي نظمتها ألمانيا ​النازية​ آنذاك بحق ​اليهود​، وحيث الدمار والخراب مصير حتمي للشعوب والبلدان التي احتلتها .

في بلدان متقدمة علميا وتقنيا، لا يزال لثقافة التمييز العنصري مكان فاعل، ولا تزال لدى بعض الفئات الأهلية الواسعة وبعض النخب المتقدمة، ثقافة العنصر المتفوق، والعرق الأرقى، والدين الأشد سموا وقربا من الله، وحكاية الفئة الناجية تتناوب على إدعاء إحتكارها الكثير من الجماعات الدينية لمريديها، وتنظر لمن هم خارجها كمنبوذين يستحقون الجحيم .

أليست داعش وأخواتها، فكرة شبيهة بشعب الله المختار وبأفكار التطهير العرقي تلبس لبوس الديني تحت شعار التكفير، والعنف الذي رافق سيطرتها على مناطق في لبنان وسورية و​العراق​، وإنتشر في العالم، قائم على تجنيد الناس بتأثير فكرة ؟

ألم يثبت أن وهم الحصانة بامتلاك أجهزة الأمن القادرة والقوية قد تفكك عندما تسلل الفكر المتطرف إلى نسيج المجتمع، وان الوافدين من الدول القوية للانضمام إلى صفوف الإرهاب هم بالآلاف، وأنهم تحولوا إلى قنابل موقوتة في مجتمعاتهم ومصدرا للقلق على مستقبل الأمن فيها، ثم الم تقل الحرب على داعش أن كل الحشود العسكرية للدول القوية لم تستطع إنهاء خطر تمدد داعش أو تحجيمه، إلا بالقدر الذي نجحت فيه المجتمعات التي حاول الإرهاب التمدد في نسيجها، من صده ومحاصرته، سواء في العراق أو في سورية أو في لبنان ؟

العمل الإرهابي الذي هز ​نيوزيلندا​ وعبرها العالم، يزيد أهمية تقدير الحاجة لثقافة مضادة للعنصرية، عابرة للعالم بكياناته ودياناته، ثقافة الأنسنة والتلاقي والحوار، وإلا لن يكون العالم مكانا آمنا للعيش لا في الشرق ولا في الغرب .

لبنان على لسان رئيس جمهوريته العماد ​ميشال عون​ وبمبادرة متكاملة عرضها على منبر ​الأمم المتحدة​، يقدم نفسه منصة ومختبرا لثقافة التلاقي والحوار لشعوب العالم، والأمر ليس نابعا عن التباهي بكون لبنان رسالة للعيش الواحد بين متعددي الإنتماءات الدينية، وهو كذلك فعلا، بل لأن لبنان الذي عاش خبرة الحروب الاهلية، ويختزن ثقافة الحوار والتلاقي، يعرف ان لديه ما يؤديه للبشرية من خبرات التجربتين، الحلوة والمرة، ولأن لدى لبنان ميزتين يصعب أن يشاركه بهما أحد، هما أن المسيحيين والمسلمين فيه هم سكان بلاد اصليون، وأن لا أغلبيات كاسحة بين طوائفه، بل توزان بين أقليات، يعتقد أن نموذجه للعيش الواحد والتفاعل بين أبناء ​الديانات​ إستثنائي، وقد بات حاجة وجودية ملحة للعالم .