جرت العادة منذ ​العهد العثماني​ أن تكون ​الجمارك​ مصدراً اساسياً لتمويل خزينة الدولة، وهذه برأيي عقلية الجابي والمحاسبجي التي لا تأخذ في الاعتبار تطوير ونموّ المجتمع وحاجاته.

وبقطع النظر عن المبادئ الاقتصادية وأثر هذه ​الضرائب​ على النمو والتخفيف من الاحتكار، فإنّ هذه العقلية لم تتغيّر منذ العهد العثماني الى يومنا هذا والامثلة كثيرة وسنسردها بالتفاصيل.

وأصرّ في كل مرة على الدخول بالتفاصيل على رغم من «نكتة العصر» والتي تتكرّر «استاذ فادي لا تدخلنا في التفاصيل المملة، فنحن نريد البحث بالماكرو وليس بالتفاصيل» وهذه كارثة على صعيد بناء ايّ اقتصاد فاعل، وهو علّة العلل، فقد دأبنا على مدى سنين على التركيز على الصورة الاشمل ونسينا أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل وأنّ ايّ خطة كبرى مهما كانت متقنة تتحطم على شواطئ التفاصيل الضيقة والاجراءات، وهذه العقلية ذاتها ما منعتنا حتى اليوم من تحقيق ايّ خرق في حائط البيروقراطية المخيفة والتي تؤثر على مركز ​لبنان​ في التنافسية العالمية وتُبعد عنه المستثمرين.

المثل الأفظع في هذا السياق صدور قوانين دون مراسيمها التنفيذية! من الممكن تدجين وتخريب ايّ قانون من خلال مراسيمه التنفيذية.

وأود اليوم أن اتطرّق الى تفصيل اساسي وهو السياسة الجمركية لاستيراد السيارات الى لبنان، قد يبدو للوهلة الاولى انّ هذا التفصيل غير اساسي وطارئ في ظل مشكلات متراكمة، الّا اننا اذا نظرنا الى سياسة النقل في لبنان، وغياب التخطيط و​النقل العام​، نرى انّ استيراد السيارات هو حاجة اساسية والسياسة الجمركية المتعلقة بها تنعكس مباشرة على تنظيم هذا الواقع ومعالجته، حيث إنّ السيارة المستوردة في هذه الحال سوف تكون وسيلة النقل الاساسية لفئات ​المجتمع اللبناني​ كلها في غياب النقل المشترك وبالتالي ليست رفاهية بل هي عدة عمل وتنقل، فحين تعجز الدولة عن تأمين نقل مشترك للمواطن، اقله يجب أن تقوم بدرس معمَّق للسياسة الجمركية المعتمدة كي لا تٌكبّد المواطن أعباء اضافية.

ولنحلّل الظلم اللاحق بالمواطن وغياب مبدأ حقوق المستهلك الاساسية كلياً مع تركيز الاحتكار ومخالفات قانونية وحتى دستورية لا تراعي المساواة بين كل المواطنين، حين يدفع مستورد (وكيل حصري) رسوماً جمركية أقل بـ40% تقريباً من مستورد غير وكيل، وهذه هرطقة قانونية ودستورية غير مفهومة.

عندما نتكلم عن السياسات الجمركية فإننا نركّز أساساً على تنافسية البلد، كما انّ دور الجمارك الاساسي هو ​حماية المستهلك​ من المحتكر وبالتالي على التشريع الجمركي أن يُشجّع التنافس وليس الوكيل الحصري كما جرت العادة.

أولاً موضوع السيارات الجديدة تقبل فاتورة الصفقة على السيارة الجديدة من قبل الوكيل، ولكن ايّ مستورد آخر وحتى لو كانت السيارة جديدة لا تُقبل الفاتورة، والافظع من ذلك تُفرض التسعيرة حسب ما ُيسمى بالكتاب الأزرق أي الاسعار المحلية في بلد المنشأ، وهذه هرطقة قانونية اذ لا يجوز أن يدفع أيُّ مستورد رسوماً جمركية أكثر من مستورد آخر على نفس السلعة، الكتاب الازرق للمستورد غير الوكيل والفاتورة للوكيل!!

هذا من جهة أما من جهة أخرى، كيف يتم احتساب الرسوم الجمركية للسيارات المستعملة «الكتاب الأزرق» وعادة الاسعار في السوق المحلي هي ليست أسعار جملة بل إنها أسعار للمستهلك تتضمّن الضرائب والرسوم المحلية والضريبة على ​القيمة المضافة​. فعندما يشتري تاجر معيّن عشرات السيارات ويستوردها الى لبنان يتمّ احتساب السيارة ليس على اساس الصفقة بل على اساس التسعير المحلي في بلد المنشأ وهذا مرتكز على سعر المفرق ومن ضمنه الضرائب المحلية ولا يمت الى واقع الأسعار بصلة .

أما بالنسبة للسيارات الصغيرة المستعملة فالحدّ الأدنى للرسوم الجمركية هو 5 مليون ليرة زائد الـTVA مع الشحن ومصاريف التخليص يصل الحد الأدنى الى ابواب 4500 دولار أميركي أي أكثر بكثير من سعر سيارة كورية مثلاً عمرها 3 أو 4 سنوات والسبب المعلن هو حماية البيئة من السيارات المستعملة، فتُصبح الجمارك أكثر من حوالى الـ200٪ من سعر السيارة الأساسي وهذا كله باسم الفقراء الذين يحتاجون الى وسيلة نقل بسعر معقول.

بالنسبة للبيئة هذا التدبير أعطى نتيجة عكسية لأننا نجد اليوم سيارات على الطرقات في لبنان عمرها أكثر من 30 سنة وضررها البيئي كبير وسبب بقائها على الطرقات انّ اسعار السيارات المستعملة المستوردة مرتفع جداً، إنّ كل السياسة الضريبية على السيارات غير منطقية وبالواقع ممكن تحسين وزيادة الجباية اذا كانت الرسوم الجمركية منطقية وعادلة.

كما المضحك ما تمّ إقراره بالنسبة للسيارات الكهربائية، تمّ إعفاء السيارات الكهربائية 100%من الجمارك والهجينة تدفع 20%جمارك فقط على أن تكون جديدة مستوردة من الوكيل الحصري! السبب المعلن بقانون ​الموازنة​ الحفاظ على البيئة! كأنّ السيارة الكهربائية او الهجينة اذا كان عمرها 6 أشهر وبضع سنوات لا تحمي البيئة.

والنتيجة لا استيراد يذكر للسيارات الكهربائية بعد صدور القانون ألدي يكرّس الاحتكار. وهل يعتقد احدُكم انّ احدهم يراقب ويعدل؟! هذا القانون المقصود منه تلميع صورة الموازنة واحترام البيئة وبالواقع المشرّع لا يريد استيراد سيارات صديقة للبيئة بل يريد رسوماً على ​البنزين​ وعلى السيارات العاملة على البنزين.

والأفظع من كل ما ذكرناه هو رسوم تسجيل السيارات، من الآخر يوجد أكثر من نصف مليون سيارة غير مسجّلة ولا تدفع ميكانيك، فهل رفع نسبة ​الميكانيك​ ورسوم التسجيل والتي هي الأغلى في العالم أدّت الى النتيجة المرجوّة أم زاد التهرّب من رسوم التسجيل والميكانيك.

ورسوم تسجيل حسب سعر السيارة! رسم التسجيل هو خدمة لقاء رسم كيف يختلف حسب سعر السيارة وهذا ضريبة معرضة للاستنسابية في تسعير السيارة المستعملة وأدّت الى بيع آلاف السيارات بوكالات.

السياسة الجمركية برمتها مهندسة لحماية الوكالات الحصرية التي تتمتع بها شركات استيراد للسيارات الجديدة في لبنان، على حساب المواطن وحقوق المستهلك، ومن دون النظر الى حاجات المجتمع الفعلية. وكأنّ السياسة الجمركية بوادٍ والمواطن بوادٍ، وكأنّ العهد العثماني/ الفرنسي مستمرٌّ للجباية فقط، متناسين أنّ الدولة لا تصلح لأن تكون محاسبجي، دورها التنمية الاجتماعية والبيئية والأهم زيادة التنافسية.