على الرغم من أنّ ​لبنان​ يُعاني من وضع إقتصادي صعب، وعلى الرغم من الخلافات والتباينات السياسيّة التي لا تزال تؤثّر على إنطلاق أعمال حُكومة "إلى العمل"-كما يُفترض وكما هو شعارها، فإنّ ملفّ ​النازحين​ السُوريّين لا يزال يحظى بأولويّة قُصوى من جانب رئيس الجمهوريّة العماد ​ميشال عون​ ووزير الخارجية والمُغتربين ​جبران باسيل​، حيث جرى إستعراض هذا الملفّ مع عدد من المراجع الدَوليّة المُؤثرة خلال الأيّام القليلة الماضية. فهل من نتائج إيجابيّة، أم أنّ لبنان سيستقبل موجة جديدة من النازحين السُوريّين إلى أراضيه، ولأي أسباب؟!.

صحيح أنّ ما نُقل عن وزير الخارجية الأميركي ​مايك بومبيو​ وعن القيادات الروسية، بعد المُحادثات التي أجراها كل من ​رئيس الجمهورية​ ووزير الخارجية مع هؤلاء في الأيّام الماضية بشأن ملفّ النازحين السُوريّين، يدعو إلى التفاؤل، لكنّ الأصحّ أنّ غياب التطبيق الميداني والسريع لأي قرار إيجابي في ما خصّ العودة، يدعو إلى الحذر الشديد. والأمر نفسه يصحّ على ما نُقل عن السُلطات السُوريّة، لجهة ضرورة تسهيل عودة النازحين على المعابر، حتى بالنسبة إلى السوريّين الذين خرجوا من بلدهم بشكل غير قانوني ومن دون المُرور بأيّ معبر شرعي. ولا يُمكن تجاهل التنافس بين ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة و​روسيا​ الإتحاديّة في منطقة ​الشرق الأوسط​، وسعيهما المُستمر لتعزيز نُفوذهما في ​سوريا​ ولبنان وغيرهما من الدول، علمًا أنّ الحديث عن إهتمام مُضاعف، وحتى عن حُلول بشأن ملفّ النازحين، من جانب كل من ​واشنطن​ و​موسكو​ وغيرهما من الأطراف، لم يقترن بعد بأي أعمال إجرائيّة واسعة تُسهّل هذه العودة. وصار واضحًا للجميع أنّ العقبة الأساسيّة أمام هذه العودة هي عدم توفّر التمويل اللازم لها، لإعادة الإعمار من جهة، ولتأمين ظروف معيشيّة مُناسبة للعائدين.

وليس بسرّ أنّ أزمة النازحين التي أثقلت كاهل لبنان لا تزال مُستمرّة منذ سنوات طويلة، من دون حُلول جدّية حتى اليوم، على الرغم من عودة عشرات آلاف السُوريّين إلى بلدهم. وفي مُقابل إحصاء عودة نحو 170000 ألف سُوري إلى وطنهم في المرحلة الأخيرة، فإنّ الأرقام مُبهمة وغير واضحة بالنسبة إلى أولئك الذين ما زالوا حتى تاريخه يتوافدون إلى لبنان، ومُتضاربة بالنسبة إلى عدد المواليد السوريّين الجُدد على أرض لبنان. والأخطر من ذلك، أنّ الكثير من النازحين السُوريّين إندمجوا، وصاروا يتعاملون معه كوطن بديل، بحيث أنّهم أصبحوا يُمارسون أعمالاً ووظائف ثابتة، وبدخل جيّد نسبيًا، الأمر الذي سمح لهم بنقل عائلاتهم من سوريا أو بتأسيس عائلات جديدة في لبنان! حتى أنّ جزءًا من اللبنانيّين تعاطى مع الأمر الواقع للنزوح السُوري، من مُنطلق مصلحة شخصيّة ضيّقة، فإستبدل بعض أصحاب المصالح الصناعيّة والتجاريّة عُمّاله وموظّفيه اللبنانيّين بعمّال وبموظّفين سُوريّين، تخفيضًا لرواتب هنا، وتهرّبًا من ضمان هناك، من غير إهتمام بالأضرار البالغة على المصلحة العامة وعلى لبنان ككل وعلى اليد العاملة اللبنانيّة فيه.

من جهة أخرى، يبدو أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة، ومعها أغلبيّة كبُرى من دول ​الإتحاد الأوروبي​ ومن ​العالم​ الغربي، إضافة إلى الدول الخليجيّة، يُصرّون على رفض تمويل أي مشروع إعماري أو إستثماري في سوريا قبل التوصّل إلى حلّ نهائي للحرب، وتحديد خريطة طريق لمُستقبل الحُكم هناك. وتتعامل هذه الجهات مع ملفّ النازحين، كجزء صغير من الملفّ السُوري الكبير، وبالتالي هي تُعارض أيَضًا تمويل عودة النازحين السُوريّين، ما لم يتمّ طيّ باقي ملفّات الأزمة السُوريّة.

وفي الوقت الذي يضغط فيه لبنان لتحريك ملفّ النازحين–ولوّ في ظلّ غياب الإجماع الوطني والسياسي على خطّة واضحة للعودة، تُواجه سُوريا ضُغوطًا إقتصاديّة كبيرة في المرحلة الراهنة، بموازاة الضُغوط السياسيّة المُستمرّة منذ تاريخ إندلاع الأزمة السُوريّة في آذار من العام 2011. والتخوّف كبير من أن تدفع الأوضاع المُترديّة فيها حاليًا، على المُستويات الإقتصاديّة والحياتيّة والمعيشيّة، بسبب تصاعد وتيرة الضُغوط، جزءًا من السوريّين إلى مُغادرة بلادهم نحو دول الجوار بحثًا عن مُستقبل أفضل. وإذا كانت المعارك والمواجهات في سوريا قد تسبّبت خلال السنوات الماضية بموجات هجرة ونزوح مُتكرّرة نحو لبنان، فإنّ الإحتمال وارد أن تتسبّب الأزمة الإقتصاديّة المُتصاعدة وغياب فرص العمل والفشل في إطلاق مشاريع إعادة الإعمار، في موجات جديدة من ​النزوح​، خاصة وأنّ الكثير من السُوريّين يعتبر لبنان محطّة "ترانزيت" يُمكن أن تنقله إلى دول أخرى في العالم، في حال لم ينجح بالإستفادة من بقائه في لبنان!.

وفي الخُلاصة، إذا كان من الضروري أن يستمرّ لبنان بتحريك ملفّ النزوح السُوري على المُستوى الدَولي، فإنّه من غير الجائز عدم التشدّد في تحديد فرص العمل المُتاحة لهؤلاء، وفي تطبيق قوانين صارمة في هذا المجال، مع عُقوبات قاسية على المُخالفين، إن اللبنانيّين أو السُوريّين، لأنّ تحفيز إرادة العودة لدى السُوريّين، تبدأ أوّلاً بإغلاق الإغراءات التي يُقدّمها لبنان للنازحين، بدءًا بتوفّر فرص العمل، مُرورًا بتسهيل الإقامات وتجديدها، وُصولاً إلى إمكان الإستفادة من التعليم المجّاني والحُصول على مُساعدات ماليّة دوريّة من المؤسّسات الدَوليّة. وعلى لبنان العاجز عن إعادة السوريّين إلى أرضهم بدون مُساعدة خارجيّة، العمل بأسلوب الضغط من جهة واللُيونة من جهة أخرى، لتسهيل توجّه هؤلاء على أرضهم أو إلى أماكن أخرى في العالم قادرة على إستيعابهم، طالما أنّ عودتهم المنظّمة إلى بلدهم الأمّ لا تزال مُتعذّرة حتى إشعار آخر.