فجأةً ومن دون سابق إنذار، عادت أدبيّات "الحرب الافتراضيّة" خلال الساعات الماضية، لتطبع العلاقة بين "التيار الوطنيّ الحرّ" و"​القوات اللبنانية​"، بعد مرحلةٍ غير طويلة من الهدوء الحذِر، أو ربما "​الهدنة​" إن جاز التعبير، ولو كانت "هشّة"، وسط "حفلات زجل" رُصِدت بين النواب والقياديين من الجهتين.

قد تكون خطّة ​الكهرباء​ هي التي "كهربت" العلاقة بين الجانبين، كما يحلو للبعض القول، تماماً كما كان يحصل في ​الحكومة​ السابقة، في ظلّ المنافسة الحامية الدائمة بين "التيار" و"القوات"، مع أنّ هذه الخطة لا تزال قيد ​النقاش​، بعدما أحيلت إلى لجنةٍ وزاريّةٍ تتمثّل فيها "القوات" كما "التيار".

ولأنّ كلّ "الأسلحة" شُرّعت في "الحرب" المستجدّة بين "التيار" و"القوات"، من دون فصلٍ بين الشخصيّ والعامّ، يصبح التساؤل عن سبب "​انفجار​" علاقتهما مجدّداً بهذا الشكل أكثر من مشروع، علماً أنّ كثيرين يربطونه بطموح رئيسيْهما الرئاسيّ، والذي بدأ يتحكّم باكراً بمجمل أدائهما السياسيّ، ولو أصرّا على نكران ذلك...

تفاهمات "على القطعة"؟!

صحيحٌ أنّ "تفاهم ​معراب​" بين "الوطني الحر" و"القوات" سقط عملياً، بصورة أو بأخرى، في مرحلة تأليف الحكومة، على خلفية "الكباش" الذي دار بين الخصمين اللدوديْن على حصّتهما في حكومة الوحدة الثلاثينيّة، واتهام "القوات" لـ"التيار" مباشرةً بالسعي إلى "تحجيمها"، وصولاً إلى "إحراجها فإخراجها".

إلا أنّ الصحيح أيضاً أنّ "هدنة" عادت لتطبع علاقتهما بشكلٍ أو بآخر في مرحلة ما بعد ولادة الحكومة، وهو ما انعكس بوضوح من خلال تقلّص "الاشتباك المباشر" بين الجانبيْن إلى حدوده الدنيا، بل تلاقيهما في مقاربة أكثر من ملفّ، بعدما كان متوقّعاً أن يتحوّل ​مجلس الوزراء​ إلى "ساحة متاريس" يقف فيها كلّ منهما في وجه الآخر.

فمن الموقف "المنسَّق" بين الجانبين من إقرار الدرجات الستّ للأساتذة الثانويين، وصولاً إلى مساندة وزير الخارجية ​جبران باسيل​ لموقف وزراء "القوات" من ضرورة اعتماد الورقة المطبوعة سلفاً في الانتخابات الفرعيّة في ​طرابلس​، على حساب حلفائه، مروراً بالعديد من المواقف الأخرى، بدا أنّ تحالفاً، أو تفاهماً بالحدّ الأدنى، "على القطعة"، عاد ليسود هذه العلاقة، بعيداً عن فرضيّة "النكد السياسي" التي كانت توحي بأنّ "التيار" و"القوات" سيحدّدان موقفهما في الحكومة من كلّ شيء، بناءً على موقف الآخر، ليكون نقيضه.

ومع أنّ الخلافات بقيت جليّة بين الجانبين في مقاربة العديد من القضايا، ولا سيما منها الحسّاسة، على غرار ملفّ ​النزوح​، في ضوء إصرار "التيار" على ضرورة "تطبيع" العلاقة مع ​النظام السوري​ لحلّ هذه الأزمة، وإصرار "القوات" المضاد على أنّ النظام لا يريد أصلاً عودتهم، فإنّ كثيرين لجأوا إلى تصوير الأمر باعتباره "اختلافاً" لا أكثر، وعلى الآليّة لا على الجوهر، وهنا بيت القصيد.

"الحق على جعجع"؟!

فجأة، وبمجرّد إثارة خطّة الكهرباء التي وضعتها وزيرة الطاقة ندى البستاني، أصبح كلّ ما سبق من الماضي. قد يقول البعض إنّ ملفّ الكهرباء هو من الملفّات الخلافيّة بين الجانبيْن، وهو محقّ، وبالتالي فإنّ الاختلاف حوله لا ينهي مفهوم "التفاهم على القطعة"، أيّ بحسب طبيعة الملفّات، وهو محقّ أيضاً. إلا أنّ من يطّلع، لمجرّد الاطلاع، على حجم ونوع الردود والردود المضادة، التي دخل على خطها العديد من النواب والقياديين في "التيار" و"القوات" في اليومين الماضيين، يتأكد بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ القصّة أكبر من مجرد اختلاف على موضوع، بل أكبر من الكهرباء بحدّ ذاتها.

وفي هذا السياق، يتبادل الطرفان بطبيعة الحال، المسؤولية عن "الدرك" الذي وصل إليه الهجوم. فبالنسبة إلى "​التيار الوطني الحر​"، رئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​ هو من يتحمّل المسؤولية، بعدما كان "المبادر" إلى الهجوم على "التيار" على خلفيّة الكهرباء، ومن خارج جدول الأعمال المُعَدّ، والأهمّ من ذلك، من خارج المؤسسات التي لطالما شدّد "الحكيم" على وجوب الاحتكام إليها. ويقول "العونيّون" في هذا الإطار، إنّ هجوم جعجع كان يمكن أن يكون مبرَّراً ومنطقياً، لو أنّ ​خطة الكهرباء​ أقرّت في الحكومة كما هي، من دون أيّ نقاشٍ حولها، وبمعارضة "القوات".

كلّ ما حصل، من وجهة النظر "العونيّة"، أنّ الخطّة أعِدّت، وهو ما كان يجب أن يحصل، وأنّها أحيلت إلى لجنةٍ وزاريّةٍ لنقاش كلّ تفاصيلها، بل أنّ وزيرة الطاقة قالت بوضوح إنّها منفتحة على أيّ تعديلاتٍ، شكليّة أو جوهريّة، على الخطّة، بنتيجة النقاش العلميّ حولها، إلا أنّ المفاجأة كانت بفتح "الحرب" على "التيار" بسبب الخطّة، تارةً على خلفيّة "البواخر" التي يصرّ "التيار" على أنّه يدعو إليها كمرحلة انتقالية ليس أكثر، وطوراً باستعادة خطابٍ قديمٍ حول "الفشل" في ​وزارة الطاقة​ منذ سنوات، وهو ما ينمّ عن "شعبوية غير مجدية"، وفقاً لـ "العونيّين".

في المقابل، تدعو "القوات" إلى "قلب الآية"، وقراءة المشهد معاكساً. برأيهم، فإنّ المعركة التي يخوضها "العونيّون"، والتي وصلوا فيها إلى حدّ الهجوم الشخصيّ على جعجع، جاءت فقط لأنّ الأخير عبّر عن رأيٍ معارضٍ للخطّة المطروحة، وهو ما يتناقض أصلاً مع ما يكرّرونه عن "انفتاحهم" على النقاش حولها. بمعنى آخر، فإنّ "العونيّين" ينتفضون ضدّ جعجع لأنه عبّر عن رأيه بخطّةٍ وضعوها، وقالوا إنّها مفتوحة للنقاش، وهو ما يدلّ على "ازدواجية" يجدر الوقوف عندها.

وإن دلّ هذا الأمر على شيء، من وجهة النظر "القواتية"، فعلى أنّ "التيار" يسعى إلى فرض خطّته كما هي، وبتعديلاتٍ شكليّة في حدّها الأقصى، وهو ما يستشَفّ أصلاً من تسريب الخطة إلى الإعلام، قبل نقاشها وإقرارها، وهو ما يتناقض مع منطق "المؤسسات" الذي ينادون به، علماً أنّ جعجع لم يكن ليعبّر عن رأيه في العلن، لو أنّ الخطة بقيت في الغرف المغلقة كما كان يفترض، حتى يتمّ الاتفاق على تفاصيلها، التي تبقى بالنسبة إلى كثيرين، "غامضة"، وهو ما ترفضه "القوات"، بعدما أعلنت أنّها لن تكون "شاهد زور" في الحكومة.

العين على الرئاسة!

في العلاقات بين القوى السياسية المرتبطة بتفاهمات عموماً، تكون "الهدنة" هي ​القاعدة​، و"الافتراق" هو الاستثناء. لكنّ التجربة أثبتت أنّ ما ينطبق على الآخرين لا ينطبق بالضرورة على "التيار" و"القوات"، حيث يبدو واضحاً، ومنذ التوقيع على "تفاهم معراب"، أنّ "الهدنة" هي الاستثناء، والذي يتمّ اللجوء إليه كلما تستفحل الخلافات، من دون أن يقوى على "الصمود" لفترة طويلة.

وإذا كانت "العلاقة التاريخية" بين الجانبين تفسّر جزءاً غير يسير من هذه المعادلة، فإنّ الجزء غير المخفيّ منها يبقى مرتبطاً ب​الانتخابات الرئاسية​ المقبلة، التي يضعها كلٌ من جعجع وباسيل نصب أعينهما، ولا شكّ أنّ الطريق نحوها ستكون مليئة بالأشواك، وعلى رأسها التباين شبه الدائم، وعلى كلّ شيء...