متسارِعة ومتضارِبة الإتجاهات، هي الأحداث والمتغيّرات من حولنا، فالإعلان عن نهاية سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي على آخر معاقله على الحدود السورية العراقية، يطوي صفحةً عمرها خمس سنوات من القلق تسبّب بها هذا التنظيم حول مستقبل المنطقة ووحدة كياناتها، إضافة لتهديده أمن واستقرار العديد من دول العالم.

رغم كون المواجهة مع الفكر المتطرف والإرهاب لا تنتهي إلّا أنّ ذلك لا يخفف من اهمية هذا الحدث الكبير، الذي سيفرض تغييراً في شكل المواجهة، من نتائجها حكماً تراجع الحاجة للحضور العسكري المباشر في المنطقة لدول التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وفقاً لإعلان الرئيس الأميركي عن نوايا سحب القوات الأميركية، ولو ارتبط الانسحاب ببرمجة زمنية وتمّ بالتدريج، فالاتجاه بات واضحاً نحو تخفيف الحضور الأجنبي العسكري في المنطقة، وفي سياق التطورات حول سورية أيضاً، وما تعنيه من تأثير مباشر في لبنان، يتقدّم موقف الأمم المتحدة وما تمثل لملاقاة فرص تسوية حول ملف النازحين تقترب من الموقف اللبناني الرسمي الرافض لربط العودة بالشروط السياسية، بينما تحظى بالتوازي العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة بفرص أفضل للتقدم مع النتائج الإيجابية التي يعلن عنها المبعوث الأممي الجديد غير بيدرسون، وهذه المؤشرات الدولية الإيجابية حول مستقبل نهاية الحرب في سورية، لا بد أن تعني تفاؤلاً بإنعكاسات إيجابية بالنسبة للبنان.

لكن مقابل هذه الإيجابيات تشهد المنطقة تصعيداً من نوع آخر، وعلى جبهات أخرى، فالعقوبات الأميركية على إيران غير مسبوقة، وتفرض ظلالها على العلاقات الإقليمية المحيطة بنا، والإعلان الأميركي عن الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل يتبعه إعلان نوايا من الرئيس الأميركي بالإستعداد للإعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، ما يبشر بتصعيد وتوترات لا يمكن التنبُّؤ بمستقبلها، نظراً لموقع القضية الفلسطينية في أحداث المنطقة وأمنها الإقليمي، ولمكانة الصراع العربي الإسرائيلي في رسم معادلات التوتر والإستقرار في المنطقة.

في لبنان يكفي النظر لزيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو لتلقّي الإشارات المتعاكسة، فمقابل العقوبات على «حزب الله» والضغوط على لبنان تحت هذا العنوان، إشارات إيجابية لمساعٍ أميركية لترسيم حدود المياه الإقليمية للبنان، وما يترتبه ذلك من نتائج إيجابية على الإقتصاد اللبناني لعلاقة الترسيم بثروات لبنان من النفط والغاز والقدرة على استثمارها.

وسط هذه المتغيّرات المستارعة والمتعاكسة يمكن للبنانيين الاصطفاف على ضفتين متقابلتين، وأن يبني كل فريق على قراءة معينة للإشارات الإقليمية والدولية ما يعزّز قوة المحور الإقليمي والدولي الذي يحالفه، فيغرق بالرهانات والأحلام والتمنيات والتنبُّؤات حول انقلاب الصورة قريباً لصالح فريقه وحلفائه، فيرتفع منسوب التوتر الداخلي، ويجد اللاعبون الكبار ساحة رخوة تصلح لتبادل الرسائل وللتفاوض حول شروط التسويات، ويمكن بالمقابل للبنانيين التمتع بالحكمة والتعقل، والابتعاد عن كل تصعيد، والاقتناع أنّ زمن التحوّلات المتسارعة والمتعاكسة يستدعي منهم التمسك بوحدتهم أكثر من أيّ وقت مضى، كي لا يقفوا ويقف معهم لبنان على ضفة تلقي النتائج السلبية لأزمات المنطقة وتسوياتها، والوحدة هنا هي تمسك بثوابت سبق وأعلنها كل من الأطراف اللبنانيين على حدة، ويشكل إعادة تأكيدها بإسم اللبنانيين مجتمعين أفضل الردود على المتغيرات والتعامل معها، فاللبنانيون متمسكون بثرواتهم النفطية وسيادتهم في البر والبحر والجو، واللبنانيون لن يبيع بعضهم بعضاً، والدولة اللبنانية ملتزمة بالقرارات الأممية، وعودة النازحين أولوية لبنانية لا حياد عنها ولا قبول بشروط توضع في طريقها. الوحدة هي بوليصة التأمين الوحيدة في مواجهة المتغيّرات المتسارعة والمتعاكسة.