في عمر الشهرين، لا أكثر، بلغت الحكومة حال العجز المبكر. فهي تتخبَّط في كل الملفات المطروحة أمامها، ولا تعرف من أين تبدأ. وجاءت متطلبات «سيدر» لتكشف عوراتها تماماً. وفي الكواليس، عاد الهمس عن تحوُّلات سياسية عميقة ربما نضجت ظروفها على نار الأزمات، وقد تشهدها المرحلة المقبلة في ​لبنان​.

هناك ضغط خارجي مزدوج تتعرَّض له الحكومة الحالية ربما يتحكَّم بمصيرها:

-1 الفرنسيون يضغطون في ملف «سيدر»، حيث على الحكومة أن تثبت للجهات المانحة أنها قادرة على الوفاء بالتزاماتها في الإصلاح الإداري والاقتصادي والمالي، تحت طائلة سحب الغطاء.

-2 الأميركيون يضغطون في مسألة العقوبات وتجفيف منابع تمويل «حزب الله».

واضح أنّ الحكومة تقف الآن في نقطة حرجة تحت هذا الضغط المزدوج. وصحيح أنّ الكلام الأكثر سخونة حالياً يتناول الملف الاقتصادي والمالي الداهم. لكنّ ملف العقوبات على «حزب الله» يبدو أنه سيكون أكثرَ سخونة وإحراجاً في المراحل اللاحقة، خصوصاً أنّ هناك حراكاً دولياً متصاعداً في شأنه، وأنه لا يعني الأميركيين حصراً.

فقبل أيام، تبنّى ​مجلس الأمن الدولي​ بالإجماع قراراً يطالب الدول الأعضاء بتشديد التدابير ل​مكافحة الإرهاب​. وشاركت ​فرنسا​ في الاجتماع من خلال وزير خارجيتها ​جان إيف لودريان​ الذي قال: «إنها البداية في مجال التنفيذ». وشرح ريمي هيتس، المكلف قضايا الإرهاب في فرنسا، كيف يتمّ نقل الأموال للإرهابيين عبر الشركات الخاصة المعروفة بنقل الأموال.

وكرَّر الأميركيون، من خلال سفيرهم في ​الأمم المتحدة​ جوناثان كوهن، اتهام «حزب الله» بـ«إشاعة العنف وزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط».

وقال: إنّ «الحزب» يستخدم شركات وهميّة في المجال الصيدلاني لإخفاء شراء أسلحة والاحتيال على إجراءات مراقبة تبييض الأموال».

وهذا الاتهام له دلالاته لأنه يشكل استتباعاً للتحذيرات التي وجَّهها الموفدون الأميركيون إلى ​بيروت​ في الأشهر الأخيرة، وآخرهم الوزير ​مايك بومبيو​، من مغبة أن يعتمد «الحزب» على تولّيه ​وزارة الصحة​ ووزارات ومؤسسات أخرى من أجل تسهيل عمليات التمويل الخاصة به.

وهذا المناخ الأميركي الضاغط على ​الحكومة اللبنانية​ يتزامن مع ضغط موازٍ على ​القطاع المصرفي​ اللبناني، بدءاً من ​مصرف لبنان​ المركزي، لتجنب إمرار أموالٍ لمصلحة «حزب الله» والمؤسسات والجمعيات الرديفة. وهناك دعاوى رفعها أميركيون، قبل أشهر، في ​نيويورك​، ضد مصارف لبنانية تحت هذا العنوان.

المثير هو أنّ الضغوط الفرنسية المتعلقة بالإصلاح على أسس مقررات «سيدر» تتقاطع مع الضغوط الأميركية المتعلقة بتجفيف تمويل الإرهاب، عند أكثر من نقطة. والأبرز هو الإصلاح والشفافية في النظام الإداري والمالي ومنع اختراقه بطريقة غير مشروعة.

وعملياً، في الحملة المشتركة ضد تمويل الإرهاب، سيكون الفرنسيون والأميركيون في جبهة واحدة. فهل ستكون الحكومة اللبنانية في الطرف الآخر من الجبهة؟

وهل هي قادرة على تحمُّل هذه المغامرة، في ظل التحديات التي يواجهها لبنان وقطاعه المصرفي، والجهود الحثيثة التي يبذلها تجنُّباً للمآزق المقبلة؟

فالهاجس الذي يعيشه لبنان اليوم هو الحؤول دون مزيد من التراجع في تصنيفه السيادي، واستمرار تأمين التغطية لقطاعه المالي والمصرفي والنقدي. وليس سرّاً أنّ ​الولايات المتحدة​ تمتلك الرصيد الأقوى لدعم الاستقرار المالي والنقدي اللبناني. إذاً، سيكون تجاوب لبنان مع متطلبات «سيدر» الإصلاحية مطلباً أميركياً مثلما هو فرنسي، والعكس صحيح.

وفي مراحل مختلفة، أظهر الأميركيون ميلاً إلى تجديد الطبقة السياسية في لبنان، مدخلاً إلى تجديد الحياة السياسية وتطوير النظام. وهذا الميل بات أكثر إلحاحاً في ظل خرق «حزب الله» اللعبة السياسية وسيطرته على غالبية القرار في السلطة.

ووفق بعض المتابعين، إنّ تغيير الطبقة السياسية وإنتاج ممثلين جدد للشرائح السياسية والاجتماعية والطائفية من شأنه أن يخلق تنوّعاً سياسياً في المجلس النيابي ينهي احتكار «الحزب» وسائر القوى الكبرى للمقدرات في السلطة، بطريقة ديموقراطية.

والأرجح أنّ الفرصة كانت متاحة لشرائح من ​المجتمع المدني​ كي تحقق هذا الهدف في الانتخابات الأخيرة في أيار، لكنّ عوامل مختلفة أدّت إلى إحباط هذه الشرائح، وأبرزها قيام القوى التقليدية بـ«خرقها» واستغلالها أحياناً وضربها من الداخل.

ولأن القوى السياسية إياها تقاطعت على إنتاج ​قانون انتخاب​ يناسبها، ولأن الأقوى بينها كان «حزب الله»، فإنّ الانتخابات جاءت بغالبية له ولحلفائه. ومن ثم انعكست هذه الغالبية على الحكومة.

واليوم، يتمسّك «الحزب» بـ«حكومته» لأنها توفّر له التغطية والحماية. ولا يمكن اليوم ضرب «الحزب» من دون ضرب الحكومة والمؤسسات والقطاعات المالية والمصرفية. ومن هنا، تُطرَح في بعض الأوساط أسئلة عما إذا ستكون الأزمة المالية والاقتصادية فرصةً لسقوط الحكومة، ما يفتح الباب لإعادة خلط الأوراق سياسياً في الداخل؟

ولكن، هل الظروف التي أملت ولادة الحكومة الحالية وفق التوازنات المعروفة قد تغيَّرت وبات ممكناً تبديل المعادلة؟ أم سيقع لبنان- عندئذٍ- في أزمة حكومية جديدة لا أفق لها، كما حصل في أزمة الـ9 أشهر؟ وتالياً، هل إسقاط الحكومة الحالية هو خيار واقعي أم هو مغامرة غير محسوبة النتائج، وتنتهي بما انتهت إليه الحكومة الحالية؟

في المنطق العلمي، يستحيل الحصول على نتائج مختلفة إذا لم يطرأ تغيُّر في العناصر. فأيّ عناصر جديدة دخلت أو ستدخل على اللعبة في لبنان؟