حتى الأمس القريب كان الكثيرون يستخفّون بالعُقوبات الإقتصاديّة والمالية الأميركيّة، إلى درجة السُخريّة من اللوائح التي تتناول الجهات والكيانات والأشخاص الذين يتمّ إستهدافهم بهذه العُقوبات. لكنّ الوقائع على الأرض تُثبت أنّ العُقوبات الأميركيّة تُمثّل سلاحًا فتّاكًا يستخدمه الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ بإتقان. وهو قد أعطى نتائج حاسمة على الأرض في ​تركيا​ وفي ​إيران​ وحتى في ​سوريا​، فهل يُمكن فعلاً أن تطال هذه العُقوبات ​لبنان​، وتحديدًا كل من له علاقة مُباشرة أو غير مُباشرة مع "​حزب الله​"– كما يتردّد؟.

في صيف العام 2018 الماضي، وبسبب تصاعد الخلاف بين واشنطن وأنقره بشأن مجموعة من القضايا والملفّات، كانت تصريحات وضُغوط الرئيس الأميركي كافية وحدها لأن تفقد الليرة التركيّة نحو 40 % من قيمتها أمام العملات الأجنبيّة، وفي طليعتها الدولار الأميركي، حيث تخطّى سعر صرف الدولار الأميركي ما قيمته سبع ليرات تركيّة في السُوق السوداء، وذلك لأوّل مرّة في تاريخ تركيا. وعلى الرغم من كل الإجراءات التي إتخذتها أنقره لوقف هذا المسار التراجعي، وأبرزها قيام البنك المركزي بتأمين السيُولة اللازمة التي تحتاج إليها المصارف، بقيت قيمة الليرة عرضة للإهتزاز مع كل تصريح جديد لترامب بشأن مُعاقبة تركيا! وبعد تحسّن نسبي لفترة زمنيّة قصيرة، عادت قيمة الليرة التركيّة للإنخفاض في كانون الثاني الماضي، ثم مُجدّدًا في الأسابيع القليلة الماضية، ودائمًا بسبب تصاريح وتهديدات ترامب، وذلك على الرغم من توافد عشرات ملايين السيّاح إلى تركيا كل سنة، مع ما يعنيه هذا الأمر من ضخّ للأموال الأجنبيّة في الإقتصاد التركي. وليس بسرّ أنّ الخسائر الجزئيّة التي لحقت بالرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ وبحزب "العدالة والتنمية" الذي يرأسه، خلال الإنتخابات البلديّة الأخيرة، تعود بجانب كبير منها إلى إمتعاض شرائح واسعة من الأتراك من سياسات أردوغان الدَوليّة والإقتصادية، ومن تصرّفه بعنجهيّة غير محسوبة النتائج إزاء واشنطن.

وبالإنتقال من تركيا إلى إيران، فإنّ الوضع الإقتصادي والمالي هو أكثر صُعوبة بفعل الضُغوط والعُقوبات الأميركيّة التي أطلّت برأسها من جديد في ظلّ حُكم إدارة الرئيس ترامب. وفي هذا السياق، أعلنت العديد من المؤسّسات الإئتمانيّة إفلاسها، وتواصل تراجع قيمة صرف العملة الإيرانيّة، وزاد التضخّم بوتيرة سريعة، وتضاعفت المشاكل الإقتصادية والمالية للشعب الإيراني، إلخ. إشارة إلى أنّ إحتمال أن يُوجّه الرئيس الأميركي ضربة جديدة قاسية جدًا للإقتصاد الإيراني في أيّار المُقبل وارد بنسبة عالية. وفي هذا السياق، عُلم أنّ واشنطن قد تقوم بوقف الإعفاءات التي قدّمتها سابقًا لثماني دُول(1) لشراء النفط الإيراني، ما يعني عمليًا وقف تصدير النفط الإيراني إلى الخارج بشكل كامل، وهو أمر كانت إيران قد هدّدت بأنها لن تسكت عنه في حال حُصوله، وستردّ عليه بمنع الملاحة البحريّة للنفط في المياه الإقليميّة المحيطة بها.

حتى أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة التي خسرت ميدانيًا على الأرض السُوريّة، لإعتبارات عدّة، حدّت أخيرًا من تراجع نُفوذها في سوريا والمنطقة ككل، من خلال التلويح بورقة الضُغوط الإقتصاديّة والمالية، حيث منعت-بالتوافق مع عدد من الدول الأوروبيّة والعربيّة المُؤثّرة، تقديم أي مُساعدات مالية لسوريا، وبالتالي حالت دون إطلاق ورشة إعادة الإعمار فيها بشكل جدّي وواسع، وذلك في إنتظار بت الوضع السياسي النهائي لمرحلة ما بعد الحرب. وصارت المشاكل التي تُعاني منها سوريا، بدءًا بملفّ إعادة النازحين، مُرورًا بملفّ إعادة إعمار ما تهدّم، وُصولاً إلى ملفّ إعادة سوريا إلى الخريطة الإقليميّة والدَوليّة، بحكم المُجمّدة، في إنتظار رفع الحظر الإقتصادي والمالي الذي ساهمت إدارة ترامب بفرضه.

وبالتالي، إنّ الإستخفاف بسلاح العُقوبات الأميركيّة هو نوع من التكابر الفارغ والهروب إلى الأمام، والخطير أنّ لبنان غير قادر إطلاقًا على تحمّل أي نوع من الضُغوط، حيث أنّ المشاكل الإقتصاديّة المُتفاقمة، والإستقرار المعيشي الهشّ، إلخ. تُشكّل كلّها ملفّات أكثر من ضاغطة وكافية وحدها لإبقاء أجواء القلق سائدة! وعلى الرغم من أن لا قرار أميركي بفرض عُقوبات على لبنان، لإرغام الدولة اللبنانية على الحدّ من نُفوذ "حزب الله" في مؤسّساته، وعلى مُستوى سياسة لبنان الخارجيّة أيضًا، فإنّ الكثير من الأحزاب والقوى والشخصيّات اللبنانيّة–من مُختلف الإتجاهات السياسيّة، قاموا في المرحلة الأخيرة ويقومون حاليًا، بإجراءات تُؤكّد تمايزهم عن "حزب الله"، وذلك تخوّفًا من أن تطالهم أي دُفعة من العُقوبات الأميركية المقبلة على "الحزب".

وفي الخُلاصة، لا قرار حتى تاريخه بأن يتمّ إستخدام سلاح العُقوبات الأميركيّة الفتّاك ضُدّ لبنان، مع إحتمال أن تشمل دُفعة العُقوبات المُقبلة كيانات وشخصيّة مُرتبطة بعلاقات تجاريّة ومالية مع "الحزب"، لكن الأكيد أنّ لبنان غير قادر على مُواجهة مثل هكذا إجراء في حال حُصوله، ولا حتى في حال مُجرّد التلويح به!.