لم يتضح المشهد اللبناني منذ سقوط حلفي "8 و 14 آذار": ما هي التحالفات السياسية؟ لا رؤية واضحة. صارت العلاقات قائمة عالقُطعة، وليس على أساس أحلاف او ثوابت سياسية، بدليل تحالفات ومجريات الإنتخابات النيابيّة ونتائجها التي اظهرت تلاقي المصالح، لا غير. وإذا كانت القوى السياسية في الساحة الإسلاميّة معروفة التوجّه والتموضع، في ظل وجود ثنائيات بدأت شيعياً بحلف حركة "أمل" و"حزب الله" منذ عقود، واطلت سنّياً مؤخراً، بتنسيق زعيمي تيار "المستقبل" رئيس ​الحكومة​ ​سعد الحريري​ وتيار "العزم" رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، فأثمرت تشاركيّة توافقيّة في الحكومة قد تتمدد إلى مساحات سياسية وإدارية أخرى بدليل تعاطي ميقاتي الإيجابي مع إنتخابات طرابلس الفرعية المرتقبة، فإنّ التفاهمات المسيحية أُصيبت بنكسة كبيرة بعد تجميد إتفاق معراب، وتوالي الحملات الاعلامية والسياسية بين التيار "الوطني الحر" وحزب "القوات"، وآخر صفحاتها أتت بعناوين إقتصاديّة، في ظلّ الخلاف الدائم حول ملف الكهرباء، والتباين بشأن مقاربة ملف النازحين السوريين. لكن السباق السيّاسي بينهما هو الأساس، خصوصاً أن رئيس "القوات" ​سمير جعجع​ يحاول فرض وجوده في الدولة وزيادة نفوذه في مؤسّساتها، وهو حق طبيعي له نتيجة حصول حزبه على أصوات إنتخابيّة تخوّله شراكة العونيين، لكنه يصطدم بممانعة التيار "الوطني الحر"، ما يُفسّر إصرار وزير الخارجيّة جبران باسيل على الإبتعاد عن جعجع، لأن كلفة التفاهم معه أكبر من كلفة الصدام السياسي بين "الوطني الحر" و "القوات". الأمر ينطبق في حسابات باسيل على أي تيار أو حزب سياسي يريد أن يشاركه في النفوذ والحصص، فيحرم البرتقاليين من التفرّد في القرارات والتعيينات. لذلك، يتزايد الحديث في الصالونات السياسيّة عن "حنكة باسيليّة"، في الإبتعاد عن كل تفاهم او حلف يقاسمه الحصص المسيحية في السياسة والإدارة، في عهد قد لا يتكرر بالنسبة الى التيار البرتقالي.

يعتقد مطّلعون أن باسيل المستند الى موقعه السياسي الجامع للتناقضات: حليف "المستقبل" و"حزب الله"، صديق الأميركيين والروس والإيرانيين، يجمع في تكتله النيابي نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي والنائب ميشال معوّض، ويمسك العصا السياسية في وسطها إقليمياً. كل ذلك، يجعله يلعب في مساحة سياسية أوسع، يهدف من خلالها للوصول لرئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ​ميشال عون​. فهو يعرف ان تلك التناقضات تحتاج الى دوره السيّاسي الآن بغياب القوى المسيحية الفاعلة، وهو ما يجعل تلك الأطراف راضية عنه.

لم يستطع جعجع أن يكتسب الدور نفسه، رغم محاولته إظهار براغماتية أحياناً، لأن "الحكيم" تخندّق في جبهة دولية، إقليمية، محلية لم تنجح في مشروعها ضد الإيرانيين والسوريين و"حزب الله"، رغم أنه يحاول التقرّب من الروس الآن لكسب ودّهم، كما ظهر في تبني "القوات" للمبادرة الروسية بشأن النازحين السوريين. وهو ما فسّره مطّلعون بأنه شكّل مخرجاً لائقاً له.

فماذا يجري في الخفايا؟.

إذا كان "محور المقاومة" تقدّم عملياً في الإقليم على حساب الدور والنفوذ الغربي المتراجع، فإن الولايات المتحدة الأميركية لم تتخلّ نهائياً عن المنطقة، لأنّ الإدارة الحاليّة لم تحدد إستراتيجيّة واضحة، بإستثناء خدمة المصالح الإسرائيليّة وتحقيق رغبات تل أبيب، كما بدا على الأقل بشأن قرار نقل السفارة الأميركيّة الى القدس، والإقرار بضمّ الجولان السوري، وعرقلة مشاريع الغاز في لبنان.

يقف اللبنانيون وخصوصا قدامى "14 آذار" في حيرة، لا يدرون كيف ستسير السياسات، رغم ان وزير الخارجيّة الأميركيّة مايك بومبيو حاول إنعاش الفريق الآذاري، فأتاه الردّ: لا نملك القدرة على إعادة تنظيم صفوفنا من دون غطاء سياسي إسلامي يؤمّنه الحريري لا غير. وهنا تكمن المعضلة عندهم، لأنّ رئيس تيار "المستقبل" بات في مكان آخر: موقعه صار أقرب الى الوسطيين، ولا يريد مشكلة سياسية مع قدامى "8 آذار" تُفقده رئاسة الحكومة، كما يقول سياسيون في هذا الفريق المذكور. هذا ما دفع جعجع تحديدا إلى مواكبة المرحلة الجديدة بمزيد من الواقعية السياسية التي تعتمد على المرونة، خشية من فقدانه الرصيد الشعبي الذي أظهرته صناديق الإقتراع في الانتخابات النيابية. لذلك يرى المطّلعون أن "الحكيم" اقدم على خطوات عدة: تبنى المبادرة الروسية، فتراجع بهدوء عن مقاربته المعهودة في شأن النازحين، شاكس التوجه الأميركي بخصوص الجولان، بينما كان ذهب داخليا الى محاولة ترتيب جبهة مسيحية لمواجهة باسيل، تجلّت بمصالحة مع تيار "المردة" لم يستفد منها الوزير السابق سليمان فرنجية، بل إنحصرت الإستفادة المعنوية "بالقوات" حتى الآن.

لكن، كل ذلك لم يُحقق لجعجع تقدّماً ملموساً، فعمد الآن إلى رفع شعار شعبي محق هو الملف المعيشي، وذهب نوّابه إلى الحد التلويح بالإستقالة من الحكومة في حال أرادت فرض الخيارات الصعبة بحق المواطنين. سينطلق "الحكيم" من الملف المعيشي لرفع خطابه الداخلي، وهو يعرف ان المواطنين قلقون من تطورات إقتصادية صعبة. لكن لا مصلحة للقوات بالخروج من الحكومة، لا الآن ولا لاحقاً، لأنّ طبيعة السياسة اللبنانيّة تعتمد على خدمات سلطوية، سيتفرد بها "الوطني الحر" بالكامل مسيحياً. ولتأكيد هذا الطرح، يقول أحد السيّاسيين في لبنان: لن يخرج عاقلٌ من الحكومة، لأنّ خطاب المعارضة لا يُنتج في لبنان، ولو كانت المعارضة مُنتجة لكان حزب "الكتائب" فاز بالعدد النيابي الأكبر في الإنتخابات الماضية، على مساحة كل الدوائر.

إذا أين ستكون "القوات"؟ ما هي خطتها الاستراتيجية؟ كيف ستنافس باسيل؟ وكيف تُترجم مصالحتها مع "المردة"؟.

كلها أسئلة لم تجد أجوبة عملية حتى الساعة، وتنتظر قرارات قواتية حكيمة في مرحلة صعبة لا يُحسد عليها "الحكيم"، تبدأ من واقع التخبط الداخلي في تحديد الحلفاء والوجهة السياسية، في ظل تفرج القوى المسيحية على التمدد العوني في الدولة، على وقع متغيّرات خارجية غير ثابتة، أساسها معادلة: لا "محور المقاومة" قادر على الحسم في الإقليم، ولا الأميركيّون يريدون التخلي عن المنطقة ولا هم يستطيعون الإمساك بها.