منذ أيام، تبدو العلاقة بين "​حزب الله​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ورئيسه ​وليد جنبلاط​، في أدقّ وأحرج مراحلا على الإطلاق، في ضوء ما وصفت بـ "القطيعة" بين الجانبين، بناء لقرار من قيادة "حزب الله" جمد قنوات التواصل بين الجانبين.

ولعل ما أثار علامات الاستفهام تمثل في السبب المباشر للأزمة، والمرتبط بمعمل ​عين دارة​ وتجميد وزير ​الصناعة​ ​وائل أبو فاعور​ قراراً في شأنه كان اتخذه الوزير السابق ​حسين الحاج حسن​، وهو ما استهجنه جنبلاط نفسه، بوصفه "تافهاً"، على الأقلّ بالمقارنة مع عوامل الاشتباك التي لم تحل دون التواصل على مدى الأعوام السابقة.

وإذا كان "الاشتراكي" بدا مربكاً نتيجة هذه الأزمة، وهو ما تجلّى في الإطلالة التلفزيونية الأخيرة لجنبلاط، فإن مؤشرات عدة تشير إلى أن الفرج اقترب، خصوصاً أن مصلحة "حزب الله" في هذه المرحلة تقتضي أيضاً، "تصفير" المشاكل في الداخل، قدر الإمكان...

جنبلاط مُربَك؟!

في إطلالته التلفزيونية الأخيرة، أقرّ جنبلاط بحصول "طلاق" مع "حزب الله"، بسبب "أزمة عين دارة". تحدّث ساخراً عن "الآخرة" في إشارة إلى العلاقة مع الحزب، بقوله إنّه "بات هناك طلاق على حساب معمل ترابة"، مضيفاً أنّه لا يسمح أن "يُصادَر" قراره، وأنّ "عليهم أن يسمعوا الانتقاد".

عبّر كلام جنبلاط في مكانٍ ما، عن "عتب" بل ربما عن "غضب" بسبب قرار "حزب الله" تجميد العلاقة معه على خلفيّة "معمل ترابة"، بعد الحرص على "تطبيعها" على مدى الأعوام السابقة، في أوج الخلاف بين الجانبين على القضايا الاستراتيجية والعميقة، وخصوصاً على خلفيّة الأزمة السوريّة وانخراط "حزب الله" فيها، وموقف جنبلاط المعروف من ​النظام السوري​، والذي يكرّره بشكل دائم، والذي يؤدي تلقائياً إلى "الافتراق" عن الحزب أيضاً، في آلية معالجة أزمة ​النزوح السوري​ المستفحلة.

ولعلّ أكثر ما أغاظ جنبلاط، أنّ هذه العلاقة "المجمَّدة" اليوم، لم تمرّ بمثل هذا "الانسداد"، حتى يوم كان "بيك ​المختارة​" زعيماً لقوى "​14 آذار​" بعيد اغتيال رئيس ​الحكومة​ الأسبق ​رفيق الحريري​، وهي القوى التي عاد جنبلاط بالأمس ليعبّر عن "حنين" إليها، في مفارقةٍ قرأ فيها كثيرون رسالةً مباشرةً إلى "حزب الله" بالتحديد، في عزّ الرسائل المشفّرة المتبادَلة بين الجانبيْن اليوم.

وإذا كان جنبلاط لا يستطيع أن يفهم أسباب ذهاب "الحزب" هذه المرّة، إلى هذه الدرجة في "الخصومة"، ولو اجتهد كثيرون بالقول إنّ "معمل الترابة" ليس سوى السبب المباشر الذي فجّر الأزمة، التي ترتبط في العمق بكلّ التراكمات السابقة، فإنّ ما يضاعف رغبته بحلّ الإشكال مع "الحزب" سريعاً، هو "الإرباك" الذي يعيشه في الساحة الداخلية منذ فترة غير بسيطة، خصوصاً بعد تقلّص دوره إلى حد بعيد، بعد ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة وما أفرزته من خسارة لموقعه كـ"بيضة قبان" بين فريقين يتصارعان، لم يعودا أصلاً موجوديْن بالمعنى الحرفيّ للكلمة.

مطلب "حزب الله"

ولعلّ "البيك" سارع، لهذه الأسباب، إلى محاولة احتواء "الأزمة" التي لم يقتنع بأسبابها، مع "حزب الله"، سواء من خلال الوساطات التي حاول تفعيلها، أو من خلال استثمار أيّ تفصيل لإعادة "الحرارة" إلى خط حارة حريك-المختارة، وهو ما حصل مثلاً خلال زيارة وزير ​الصحة​ ​جميل جبق​، المحسوب على "الحزب"، إلى ​راشيا​ وحاصبيا، حين وظّفها أبو فاعور لتوجيه رسائل "ودّ"، رداً على ما أثير عن "طلاق" بين الجانبين، علماً أنّ مقرّبين من "حزب الله" حرصوا يومها على الفصل بين زيارة جبق التي جاءت في إطار جولاته على المناطق بصفته وزيراً للصحّة، وبين العلاقة "المجمَّدة" مع "الاشتراكي".

وتكرّرت محاولات الاحتواء نفسها في خطاب جنبلاط وقياديّي حزبه خلال الآونة الأخيرة، وهو ما برز بشكلٍ خاص في إطلالته التلفزيونيّة الأخيرة، التي حرص خلالها على العزف على الوتر "المشترك" مع "حزب الله"، ألا وهو القضية الفلسطينيّة، التي لجأ إليها في قراءة ومقاربة كلّ الملفات، تماماً كما حرص على عدم التصويب على "الحزب" وسلاحه، موجّهاً في الوقت نفسه "عتباً" أكثر من واضح، من طريقة التعامل معه، على خلفية "معمل ترابة"، وهو ما اختصره بعبارة "ليك مللاّ آخرة".

عموماً، تشير المُعطيات إلى أنّ كلام جنبلاط قد يجد ترجمة في القادم من الأيام، وسط تسريباتٍ تتحدّث عن نجاح الوساطات في تأمين توافقٍ على لقاءٍ بين مسؤولين من الجانبين الأسبوع المقبل، علماً أنّ "الحزب" يصرّ على أن سبب الخلاف مع جنبلاط ليس "المعمل" بحدّ ذاته، بل القرار الذي اتّخذه أبو فاعور، والذي أوحى بأنّ قرار الحاج حسن لم يكن قانونياً، على رغم كلّ محاولات استباقه، وهو ما أتى للتشويش على حملة ​مكافحة الفساد​ التي ينخرط بها "حزب الله" اليوم، بل يصوّره وكأنّه جزءٌ من منظومة الفساد بشكلٍ أو بآخر.

لكن، أبعد من كلّ هذه الأسباب المبدئية وغير المبدئية، يمكن القول إنّ ما يعزّز الاعتقاد بأنّ "الفرج" اقترب، يكمن في ما يمكن وصفه في مكانٍ ما، بـ"التحول" الذي طرأ على ​سياسة​ "حزب الله" في الأيام الماضية، والذي دفعه إلى انتهاج مبدأ "تصفير المشاكل" في الداخل، وفضّ أي "اشتباك" ممكن مع أيّ من الأفرقاء، باعتبار أنّه سيكون بلا جدوى، في ظلّ "السخونة" التي تطلّ في أفق الإقليم، وفي ضوء العقوبات المفروضة على ​إيران​ والحزب، والمهدَّدة بالتوسّع أكثر.

وإذا كان "الحزب" يعتمد مثل هذه ​السياسة​ مع خصومه التاريخيين الذين لا تربطه بهم أصلاً أيّ قناة اتصال مشتركة، على غرار "​القوات اللبنانية​"، فالأولى به أن يحصّن علاقاته القائمة أصلاً مع بعض الخصوم، وفي مقدّمهم جنبلاط، كما رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ وغيرهما، بدليل تراجع بريق "المعركة" التي كان "الحزب" فتحها ضدّ رئيس الحكومة الأسبق ​فؤاد السنيورة​، كما يقول كثيرون، علماً أنّ الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​ جسّد هذه الرؤية، إذ إنّ "تصعيد اللهجة" اقتصر على الخارج، من دون أن يجد أيّ "ترجمة" في ملفات الداخل، التي كان واضحاً فيها الحرص على تمتين "التهدئة"، مهما كان الثمن.

مصلحة متبادلة؟!

تبدو العلاقة بين "حزب الله" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" مختلفة عن الكثير من العلاقات في الخريطة السياسية الداخلية، فالحزبان المختلفان حتى العظم في مقاربة الكثير من الملفات، واللذان مرّا تاريخياً، بالعديد من موجات "الهبوط"، حافظا على قنوات التواصل المشتركة في كلّ المراحل تقريباً، تحت عنوان "إدارة الخلاف".

وإذا كان الخلاف الناشب بينهما اليوم، ترك أثراً قد يكون كبيراً، ولو كان سببه الأقلّ وقعاً في مسيرتهما، فإنّ عوامل عدّة تدفع إلى الاعتقاد بأنّ "الفرج" اقترب لاعتباراتٍ وحساباتٍ عدّة، أولها المصلحة المتبادلة للجانبيْن، في ضوء الظروف الموضوعية المحيطة بكلّ منهما، بمُعزَلٍ عن نجاعة أي تسوية، أو إمكانيّة صمودها...