"مات ابن الله مُعذّباً عنّا فوق الصّليب"(الليتورجية المارونيّة). هذه الكلمات المأخوذة من اللّيتورجيا المقدّسة، تُعلن حقيقةً موت يسوع. فابن الإنسان " تَأَلَّمُ كَثِيرًا، وَرُفِضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَقُتلَ، وقام في اليوم الثّالث"(لو9: 22).

ولكن لماذا يتعذّب البريء الذي لا خطيئة عليه، بينما يُكَرَّم المجرم! ولِماذا يُساق البريء إلى الموت، بينما يُطلَق سراحُ برأبّا القاتل! ولماذا يرتضي البريء بأن يسكُبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَيُحْصى مَعَ الأثَمة، وَيحَمِلَ في جسده خَطِايا كَثِيرِينَ وَيشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ(أش53: 12). أين المنطق في ذلك؟!.

أيدينا التي ارتكبنا بها المعاصي وألف شرّ وشرّ. أيدينا التي مدّت شبّاننا وشابّاتنا بالمُخدّرات والخمور. أيدينا التي لعبنا بها القِمار. أيدينا التي حملت الأسلِحة الفتّاكة. أيدينا التي زوّرنا بها الحقّ، ورشونا وارتشينا، وسرقنا بها إخوتنا والمال العامّ، وأخذنا ما لا يحقّ لنا به، هي التي يجب أن تُثقَب، مع ذلِك ارتضى بأن تُثقب يداه هو عنّا.

أرجُلنا التي قادتنا إلى الشرّ وإلى الإنقياد وراء الخطيئة وعِشرة السّوء، هي التي يجب أن تُسَمَّر بالمسامير، ومع ذلك ارتضى بأنّ تُسَمَّر رِجلاه هو عنّا.

أفكارنا الشّريرة التي بَلبَلنا بها عقول إخوتنا وسببّنا لهم الشكٍ والعِثار، وخَربطنا بها السّلام في الجماعة وفي ​العالم​، هي التي يجب أن تُكلَّل بالشّوك، ومع ذلك ارتضى هو بالشّوك إكليلاً عنّا.

ألسنتنا الوسِخة التي سلّطناها على الأبرياء، وسَلبنا بها صيت إخوتنا ونِلنا من كراماتهم، واستعملناها للكذب وتشويه الحقيقة، وصنعنا بها الحروب بين الإخوة، هي التي يجب أن تُخدَّر بالخلّ والمُرّ، ومع ذلك ارتضى بأن يتجرَّع هو الخلّ والمُرّ عنّا.

أجسادنا الذي سلّمناها للشّهوة والفسق والفجور، هي التي يجب أن تُجلّد، ومع ذلِك ارتضى بأن يُجلَد هو، وأن يُجرَح جسده هو عنّا.

قلوبنا المليئة بالحقد والكراهية والكبرياء، هي التي يجب أن تُطعَن بحربة، ومع ذلك، ارتضى بأن يُطعن قلبه هو عنّا.

مَن كان يجدر به أن يموت هو نحن. ولكن مَن مات هو هو!

المُجرِم هو من يجدر به أن ينال القصاص، لا البارّ. ومع ذلك ارتضى البارّ بأن يُقاصَص عن المجرم. وبهذا تمّت نبوءة أشعيا النبي:"إنّه لقد أخذ عاهاتَنا وحمل أوجاعنا"(أش53: 4).

لماذا قَبل يسوع بالموت كالمجرمين؟ لماذا حَمَل في جسده بشاعة خطيئتنا؟ لأنه يُحبّ خاصّته الّذين في العالم (يو13: 1)، ولا يُريد بالتالي أن يَهلك أحداً منهم (يو17: 12)؛ فيسوع، لم يدخل إلى أورشليم لكي يُكرَّم كالملوك والرّؤساء، بل لكي يُجلَّد ويُسب ويُهان ويُكلّل بالشوك (أش 50: 6)، ويموت فوق الصّليب من أجل خاصّته الذين هُم في العالم. يسوع ربٌّ يُحبّ شعبه وإخوته وأخواته حتى جُنون الصّليب، وعرشه الملوكي ليس سوى خشبة الصّليب! فعلى الصّليب، وفي كامل المحبّة، تجلّى كلّ مجد الله.

في الكتاب المقدّس، يُشير المجد إلى ظهور الله، إنّه العلامة المميّزة لحضوره المخلّص بين البشر. فعلى الصّليب ظهر بصورةٍ نهائية حضور الله وخلاصه، وبطريقة مُدهِشة لم يسبق أن عرفتها البشريّة من قبل. هذا المجد تبيّنه قائد المئة، الذي بعدما عاين فظاعة الشرّ الذي أنزله الحاقدون بيسوع، ومدى الظّلم الذي عانى منه البريء، وصمت يسوع وغُفرانه لِمَن كان شرّيراً معه، أعلن إيمانه بهذا الملك المُعلَّق على الخشبة، قائلاً:" حقّاً كان هذا هو ابن الله"(مت 27: 54).

الأخوات والإخوة الأحبّاء، ابن الله يكون حيثما تكون المحبّة، فلنجتهد لنُحبّ حتى الغاية، فنكون مع ​المسيح​، ويكون المسيح معنا. لنُحبّ ونُحبّ ونُحبّ، فالمحبّة وحدها القادرة على أن تُعطي ​الحياة​ للعالم، وتُظهِر حضور الله فينا، لا القوّة ولا القهر ولا الإذلال والإخضاع، بل المحبّة التي هي "أسلوب الله" مع العالم، وأسوبنا إن أردنا أن نكون مع الله.

أيّها المتألّم المصلوب حُبّاً بِنا، ارحمنا وارحم العالم أجمع. آمين.