على رغم الصورة الهزيلة التي خرجت بها، أفرزت ​الانتخابات الفرعية​ الأخيرة التي شهدتها عاصمة الشمال ​طرابلس​ صورة مختلفة عن الواقع السياسي العام ليس في المدينة فحسب، بل في لبنان ككلّ، بعدما خاضها جنباً إلى جنب معظم الزعماء والقادة السنّة، من رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، إلى رئيس الحكومة الأسبق ​نجيب ميقاتي​، والوزيرين السابقين ​أشرف ريفي​ و​محمد الصفدي​ وغيرهم.

وإذا كان هذا التكتل "السنّي" توحّد في معركةٍ لم تكن متكافئة من الأساس، في ظلّ عدم توافر أيّ خصمٍ جدّي، وخصوصاً بعد قرار قيادة "8 آذار" عدم الدخول على خط المنافسة، بل تجاهل الاستحقاق وكأنّه لم يكن، فإنّ علامات استفهامٍ تُطرح عمّا إذا كان ذلك من شأنه التأسيس لولادة جبهة سنّية بحجم الوطن، عابرة للخلافات والاصطفافات، أم أنّه لا يعدو كونه تحالفاً انتخابياً سينتهي مفعوله سريعاً، شأنه في ذلك شأن الكثير من التحالفات التي خيضت الانتخابات النيابية الأخيرة على أساسها.

المصلحة أولاً

قد يكون مجرّد التقاء الحريري وميقاتي وريفي والصفدي في حلفٍ واحدٍ، ولو كان انتخابياً وظرفياً موقتاً، أمراً مستغرَباً لكثيرين، خصوصاً أنّ لمعظم هؤلاء صولات وجولات من المعارك والاشتباكات التي لا تُنسى، على غرار "القطيعة" التي حصلت بين الحريري وميقاتي بعد موافقة الأخير على ترؤس ما يعتبرها "​تيار المستقبل​"، حكومة "الانقلاب" على "الشيخ سعد"، أو حملات "التخوين" المتبادَلة التي دارت بين الحريري وريفي، ولم تنتهِ سوى على طريقة تفادي معركة انتخابية ضروس جديدة بينهما.

لكن، أبعد من الوقائع السياسية التي تحمل من التناقضات ما تحمل، تبقى "المصلحة" هي الأساس في خيارات كلّ هذه القوى السياسية، التي وجدت في تحالفها ربما "مصلحة" تفوق تلك التي يمكن أن تجنيها من المواجهة الانتخابيّة، سواء ضمنت الفوز أم لم تفعل. فإذا كان الصفدي يسعى إلى تعزيز تحالفه مع الحريري الذي تكرّس في الانتخابات الأخيرة، وبعد توزير زوجته فيوليت خير الله في الحكومة، فإنّ ميقاتي من جهته، وجد في التحالف الانتخابي فرصة لتعزيز التعاون الذي تكرّس بتوزير ممثل له في الحكومة، فضلاً عن أنّ ميقاتي يعتبر أنّه حقّق في الانتخابات النيابيّة الأخيرة ما يريد تحقيقه، وكرّس "زعامة مطلقة" في عاصمة الشمال، ليس بحاجة اليوم إلى إعادة تثبيتها.

ولعلّ "المصلحة" هي أيضاً التي غلّبت خيار ريفي التحالف مع الحريري، بدل خوض مواجهة انتخابيّة جديدة معه، خصوصاً أنّ الأخير الذي كان أعلن نيّته الترشح إلى المعركة الانتخابيّة الفرعيّة، كان يدرك في قرارة نفسه أنّ ذهابه حتّى النهاية في مثل هذا المشروع قد يؤدّي إلى "انتحارٍ سياسي"، خصوصاً في حال خسارته أمام مرشّحة تقلّ عنه في الخبرة السياسيّة كديما جمالي، ما سيجعل الهزيمة مضاعفة بعد تلك التي مني بها في الانتخابات الأخيرة، فما كان منه إلا أن فضّل خيار "المصالحة"، الذي كان يحاول طرق أبوابه منذ فترة، من دون أن يجد القبول الذي وفّرته الانتخابات الفرعيّة.

أين الترجمة؟!

وإذا كان "تيار المستقبل" وجد أنّ من مصلحته التحالف مع كلّ خصومه التاريخيين والتقليديين في طرابلس، بما يمكن أن يسهم في تخفيف الكثير من التشنج والتوتر عن معركة يرى أنه لم يكن لها لزوم من الأصل، وهو ما حصل بالفعل إذ مرّت الانتخابات بيسر ومن دون ضربة كفّ، ثمّة في المقابل من يعتبر ذلك إقراراً من التيار "الأزرق" بأفول نجمه إلى حدّ بعيد، وحاجته للتحالف مع شخصيات سنّية أساسيّة أخرى لضمان فوزه، وهو ما لم يكن يحصل في السابق.

وانطلاقاً من هنا، ثمّة من يسأل عن "الترجمة" المنتظرة للتحالف السنّي المستجدّ في الواقع السياسيّ العام، وما إذا كان على "تيار المستقبل" بموجبه، أن يقدّم المزيد من التنازلات، من الصحن السنّي هذه المرّة، لصالح حلفائه الجدد، خصوصاً أنّه لن يكون بإمكانه ادّعاء "احتكار" التمثيل السنّي بالمُطلَق بعد اليوم، والاستحواذ على التعيينات كاملةً مثلاً، فيما هو يلجأ إلى التحالف مع شخصيّات وزعماء آخرين في الانتخابات، وسيكون من حقّ هؤلاء أن يطالبوا بحصّتهم.

وفي السياق نفسه، ثمّة من يلمّح إلى أنّ هذا الحلف، إذا ما توسّع، وبالتالي تعمّم حتى لا يصبح حكراً على طرابلس فقط، يستهدف بالدرجة الأولى، سنّة "8 آذار"، وهو بهذا المعنى، قد يكون رداً على "​اللقاء التشاوري​ السنّي" الذي يتهم "تيار المستقبل"، "​حزب الله​" بأنّه من يقف وراءه، علماً أنّ ميقاتي سبق أن رفض الانضمام إلى هذا "اللقاء" وانتقده في العلن، مشدّداً على رفضه الانضمام لأيّ لقاء طائفي، في حين أنّ ريفي مثلاً يجد نفسه أقرب إلى الحلف مع الحريري من أيّ حلفٍ مع فريق محسوب على "حزب الله" بطبيعة الحال.

وفي حين يشير البعض إلى أنّ هذا الحلف يأتي ليخدم الحريري أيضاً، من خلال تصوير وجود التفافٍ سُنّي قويّ حوله، وهو ما كان بدأ أصلاً خلال مرحلة تأليف الحكومة، مع بيانات الدعم والتضامن التي كانت تصدر عن رؤساء الحكومات السابقين، ومن بينهم ميقاتي، ثمّة من يعتقد أنّ مثل هذا الحلف لن يصمد طويلاً، خصوصاً في ظلّ "الصراع على الزعامة" بين مكوّناته، ما يجعل ديمومته أمراً شبه مستحيل، وما التفاهمات والتحالفات والمصالحات التي شهدتها الساحة اللبنانية في الأعوام القليلة الماضية، وخرجت مع الريح، سوى خير دليلٍ على ذلك.

"الافتراق" مجدّداً؟!

صحيح أنّ الانتخابات الفرعيّة الأخيرة في طرابلس لم تخرج بأيّ نتيجة مخالفة للتوقّعات، سواء لجهة فوز مرشحة "تيار المستقبل" فيها، أو لجهة ضعف الإقبال على التصويت، إلا أنّها في المقابل، كرّست حلفاً سنياً عابراً للخلافات والزعامات، لم تشهده عاصمة الشمال في الانتخابات النيابية الأخيرة.

وإذا كانت "المصلحة" هي التي فرضت هذا التحالف اليوم وفي هذا التوقيت، فإنّ الرهانات كثيرة على أنّ هذه "المصلحة" أيضاً هي التي ستفرض "الافتراق" من جديد بين زعماء طرابلس، عاجلاً أم آجلاً، وهو ما يرجّح أن يحصل قريباً، في ظلّ التحدّيات والاستحقاقات غير البسيطة التي تنتظر عاصمة الشمال، ولبنان عموماً...