بين ليلةٍ وضُحاها، أصبحت الموازنة التي لم تُعرف تفاصيلها ولم تقرّ بعد، الشغل الشاغل ل​لبنان​يين، ليس فقط لجهة كمية الأخبار والإشاعات التي أحاطت بها، وخصوصاً لما ستتضمّنه من إجراءاتٍ تقشفيّة قيل إنّها ستطال أصحاب الدخلين الفقير والمتوسط قبل سواهم، ولكن أيضاً لجهة الخلافات التي أفرزتها بين مختلف القوى السياسية، والتي أنهت "الهدنة" التي كانت سائدة على أكثر من خطّ.

ولعلّ كلام ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ لمناسبة ​عيد الفصح​ في بكركي كان الأكثر وضوحاً على هذا الصعيد، إذ قرأ فيه كثيرون "تبايناً" جديداً مع رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، يقوم في الأساس على "تناقض" الرؤية الاقتصادية للرجلين، لكنّه يمتدّ إلى الشكل أيضاً، بين "تريث" الحريري في طرح الموازنة، بانتظار "التوافق"، وإصرار عون على عدم المماطلة أكثر في الوضع "الشاذ" الحالي...

لا للتأخير

كان كلام رئيس الجمهورية في بكركي واضحاً، لجهة عدم رضاه على التأخير الحاصل في إقرار الموازنة، التي كان البعض ينادي بعقد جلسة لحكومة ​تصريف الأعمال​ لإقرارها، فإذا بها تبقى عالقة حتى اليوم، بانتظار اتفاقٍ من هنا أو تسويةٍ من هنالك، على جري العادة اللبنانيّة.

قال عون كلاماً فُسّر على أنه رسائل موجّهة بشكلٍ خاص إلى رئيس الحكومة، ووزير المال ​علي حسن خليل​، ما دفع البعض إلى الحديث عن خلاف جديد بين عون والحريري من شأنه تهديد التسوية الرئاسيّة التي لا تكاد تجتاز تحدياً أو منعطفاً، حتى تصطدم بآخر، نتيجة التباينات المتعدّدة بين الرجلين، ليس في السياسة فحسب، ولكن في الاقتصاد أيضاً.

ولعلّ المأخذ الرئيسي الذي يسجّله عون على الحريري يكمن في الشكل قبل المضمون، وتحديداً لجهة انتظار الأخير "التوافق" في كل الملفات قبل طرحها، والموازنة أحدها، في حين أنّ "العهد" يريد تكريس ثقافة أخرى عنوانها الالتزام بالاستحقاقات وتواقيتها الدستوريّة، وهو ما يؤكده في كلّ المناسبات، خصوصاً أنّ رئيس الجمهورية يشدّد دائماً على أنّ "العهد" الحالي ليس كغيره من العهود، وبالتالي فلا ضير من اللجوء إلى الحسم داخل ​مجلس الوزراء​، بموجب الدستور، بدل التقيّد ببدعة التوافق، ليصبح مجلس الوزراء مجرّد مجلس تنفيذي لإملاءات وتوافقات الزعماء خارجه.

وبعيداً عن الشكل، لا شكّ أنّ المضمون المتعلّق بالموازنة "يفرّق" أيضاً بين عون والحريري، بالنظر إلى اختلاف الرؤية الاقتصاديّة حدّ التناقض بين الرجلين، وهو ما يمكن اعتباره خلافاً تاريخياً في المشروع الاقتصادي، بين ذلك الذي تمثّله "الحريريّة السياسيّة" إن جاز التعبير، والمشروع المقابل الذي يطرحه عون. وتشير المعلومات إلى أنّ الأخير لا يمكن أن يقبل بورقة الحريري الاقتصاديّة، سواء التي نشرت ونفاها، أو ما تمّ تسريبه مراراً، وهو يرفض أيّ مسّ برواتب الموظفين، ويعتبر أنّ هناك موارد كثيرة يمكن اللجوء إليها لتخفيف العجز، في مقدّمها الأملاك البحريّة التي خاض على خطّها معارك عدّة خلال مسيرته السياسيّة.

موازنة "غير مألوفة"؟!

لا شكّ أنّ الحريري فهم جيّداً رسائل عون، ولذلك سرّبت مصادر محسوبة عليه نيّته إصدار بيان توضيحيّ، للردّ عليه بشكلٍ أو بآخر، قبل أن يعدل عن الفكرة، حفظاً للتسوية الرئاسية من شظايا الموازنة، كما يقول البعض، باعتبار أنّ القاصي والداني يدركان أنّ الرجلين سيعبران ألغام الموازنة، تماماً كما اجتازا في السابق الكثير من المطبّات التي اصطدم بها تفاهمهما، انطلاقاً من كون التسوية المذكورة مصلحة ثنائية لهما.

وإذا كان الحريري لم يعلّق انطلاقاً من ذلك على مواقف عون في بكركي، فإنّ المقرّبين منه يشرحون وجهة نظره، انطلاقاً من أنّ الموازنة المرتقبة هي غير مألوفة في تاريخ الموازنات اللبنانية، لاعتبارات وحسابات عدّة، وهو ما سبق أن أعلنه صراحة عبر الإعلام، ما يتطلب أوسع توافق بين القوى السياسيّة، حتى لا يتمّ التشويش عليها، وبالتالي تعريضها لخطر السقوط الشعبوي، وهو ما بدأ يلمس محاولات للدفع باتّجاهه، من خلال بعض التصريحات الرنّانة من هنا أو هنالك.

ولعلّ الهمّ الأساسيّ للحريري في هذا السياق، هو ضرورة الخروج بموازنة متقشفة إلى حدّ بعيد، تتناسب والإصلاحات التي اتُفق عليها بموجب مؤتمر "سيدر"، وبالتالي تلبّي الشروط أو المتطلبات التي وضعتها ​الدول المانحة​ للبنان لتدخل قروضها ومساعداتها الميسّرة حيّز التنفيذ، وهو بالمناسبة ليس تطوراً طارئاً أو مفاجئاً ليُحدِث كلّ ردّة الفعل هذه بالنسبة إلى الحريري على الأقلّ، باعتبار أنّه سبق أن مهّد له منذ ما قبل ​تشكيل الحكومة​، حين أعلن بالفم الملآن، وعبر الإعلام، أنّ حكومته ستكون مضطرّة لاتّخاذ إجراءات قاسية وغير شعبيّة.

وحتى لو نفى الحريري مراراً وتكراراً ما يُنشر حول طرح تخفيض الاجور ومعاشات التقاعد والتقديمات الاجتماعية، وتصويره على أنّه "كلام صحف" لا أكثر ولا أقلّ، إلا أنّ المعنيّين يؤكدون أنّه متمسّك بهذا الطرح بشكلٍ أو بآخر، وهو يرفض أن يكون خفض كلفة ​الدين العام​ على عاتق ​المصارف​ و​مصرف لبنان​، علماً انّه لم يستسغ الهجوم الذي شنّه وزير الاقتصاد ​منصور بطيش​ على الحاكم ​رياض سلامة​، وهو يحذّر في مجالسه من أنّ الشعبويّة التي يلجأ إليها البعض من شأنها أن تحوّل لبنان إلى نموذج مستنسخ للتجربة اليونانية، وهو ما لن يكون بمقدور أحد تحمّل نتائجه أو تبعاته بأيّ شكلٍ من الأشكال.

جوهر ​النقاش​؟!

على امتداد اليومين الماضيين، قيل الكثير عن خلاف عون والحريري على موضوع الموازنة. ذهب البعض إلى حدّ اعتبار تصريح رئيس الجمهوريّة من بكركي بمثابة نزعٍ لملف الموازنة من يد رئيس الحكومة، ليطرح مجدّداً السجال القديم الجديد حول صراع الصلاحيات بين الرجلين، والذي كان وصل إلى أوجه في مرحلة تأليف الحكومة، وبعد الجلسة الأولى لمجلس الوزراء.

لكن أبعد من كل ما قيل ويقال وسيقال، وإذا كان الأكيد أنّ ​التسوية الرئاسية​ تبقى محصّنة من السقوط حتى إشعار آخر، لأنّ سقوطها يعني سقوط الحكومة برمّتها، فإنّ الأكيد أكثر يبقى أنّ الاختلاف في الرؤية الاقتصادية بين عون والحريري ليس بجديد، وأنّ جوهر النقاش الحاصل اليوم ينطلق من هنا، في ظلّ إصرارٍ على عدم التباطؤ أكثر في الحسم، لأنّ كلّ تأخير ينعكس سلباً على الجميع من دون استثناء...