منذ ما قبل ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة والتي جرت للمرّة الأولى في تاريخ لبنان وفق قانون انتخابي يعتمد النسبيّة، حُكي الكثير في الكواليس السياسية عن "مرحليّة" هذا القانون، وأنّه موقت وليس دائماً، وأنّ المطلوب تعديله في أقرب فرصة ممكنة.

ومع أنّ الانتخابات النيابية كرّست هذا الاعتقاد لدى الكثير من الكتل السياسية الأساسية، التي لم تبدُ راضية من نتيجة الانتخابات، التي أحدثت خللاً على أكثر من مستوى، فإنّ النقاش بالقانون لم يُفتَح من جديد في البلد حتى الساعة، ربما لأنّ اللبنانيين اعتادوا على تأجيل كلّ الأمور حتى ربع الساعة الأخير.

إلا أنّ خرقاً سُجّل في الساعات الماضية مع إعلان كتلة "التنمية والتحرير" برئاسة رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، تبنّيها لاقتراح قانون جديد للانتخابات، على أن تبدأ جولة مشاورات واسعة حوله في وقت قريب، تسبق تقديمه الى مجلس النواب. فما خلفيّات هذا الاقتراح ودلالاته؟ وهل يؤدي إلى إطلاق "ورشة" القانون الانتخابيّ من جديد؟!.

لا للحشر!

بالنسبة إلى كتلة "التنمية والتحرير"، فإنّ المفاجئ والمستغرَب ليس أن يُفتَح ملف قانون الانتخابيّ بصورةٍ جدية في هذا التوقيت، بل أن يمرّ ما يقارب العام على الانتخابات النيابية الأخيرة التي أجمعت القوى السياسية على ضرورة تطوير القانون الذي جرت على أساسه، من دون أن تُرصَد أيّ خطوة عملية ملموسة في هذا الصدد.

من هنا، فإنّ لجوء الكتلة إلى هذه الخطوة اليوم يأتي، بحسب ما يؤكد المعنيّون بها، لتدارك عادة "الحشر" اللبنانية المعروفة، وهو ما عبّر عنه بري بنفسه حين قال إنّ المطلوب أن "لا نحشر نفسنا في الوقت كما كان يحصل في السابق". ولعلّه كان يقصد بذلك تحديداً ما حصل قبل الانتخابات النيابيّة الأخيرة، حين اضطر البرلمان إلى إقرار القانون "تحت الضغط"، وإلى استحداث "تمديد تقني" لولاية مجلس النواب، التي كانت ممدَّدة أصلاً.

ويكفي للدلالة على ذلك العودة إلى ولاية مجلس نواب 2009 الذي خرق الأرقام القياسيّة من حيث المدّة، من دون أن يتذكّر أعضاؤه البحث في ​قانون الانتخابات​، على رغم أنّ تعديله كان مطلباً شعبياً وجماهيرياً، حتى ربع الساعة الأخيرة، ليتذرّعوا عندها بضيق الوقت وعدم القدرة على فتح نقاش وطني واسع بالموضوع، بل إنّ تعديل قانون الانتخاب كان يوضَع كواحدٍ من "الأسباب القاهرة" التي دفعت إلى تمديد ولاية البرلمان لأكثر من مرّة، في مفارقةٍ أكثر من فاقعة.

وانطلاقاً من ذلك، ثمّة هواجس لدى فريق واسع من اللبنانيين من أن يتكرّر السيناريو نفسه خلال ولاية مجلس النواب الحالي، إما لإجرائها وفق القانون نفسه الذي لا يزال الكثير من اللبنانيين عاجزين عن استيعابه، على اعتبار أنّه لم يُجرَّب بما فيه الكفاية بعد، وإن ظهرت بعض ثغراته جليّة، وإما للعودة إلى قانون الستّين الذي لا يزال المفضَّل لدى معظم الأفرقاء، وإما للذهاب إلى تمديد جديد للبرلمان، ليكون بذلك هو من ينتخب رئيس الجمهورية المقبل، وهنا القطبة المخفيّة التي تثير خشية الكثيرين.

التوافق المفقود

وسواء كان فتح ملف قانون الانتخاب اليوم "أولويّة" بالفعل كما يرى فريق بري، أو أنّ هناك "أولويات" أهمّ يجب الانتهاء منها أولاً، خصوصاً في ما يتعلق بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يئنّ تحتها البلد، فإنّ علامات استفهامٍ تُطرح عن مدى إمكان التوافق على قانون انتخابي عصري وحضاري بين مختلف القوى السياسيّة، خصوصاً أنّ القانون الحالي وُصِف بأنّه "أفضل الممكن" بعد نقاشات ماراثونيّة.

ويكفي في هذا الإطار ما تسرّب من عناوين فضفاضة لاقتراح القانون الانتخابي الجديد لكتلة "التنمية والتحرير"، للتكهّن بعدم قدرته على تحقيق التوافق، باعتبار أنه يقوم على جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة على أساس النسبيّة. فعلى رغم أنّ مثل هذا الطرح عصري وحضاري، ويجمع معظم الخبراء الانتخابيّين على أنّه قد يكون الطرح الانتخابيّ الأمثل عموماً، فإنّه، وبمعزلٍ عن أيّ تفاصيل تقنيّة أخرى تتعلق بالعتبة الانتخابية والصوت التفضيلي وإلى آخره، يصطدم بـ"فيتو" لدى فريق واسع من اللبنانيين.

وتأتي القوى الفاعلة على الساحة المسيحيّة على رأس المعترضين على مثل هذا الطرح، وإن كان معظمها من المتمسّكين باعتماد النسبيّة في المبدأ، ولكن وفق أسُسٍ طائفيّة ومذهبيّة تراعي الخصوصية اللبنانيّة التي لا يمكن التعاطي معها كما يتمّ التعاطي مع أيّ مجتمعات أخرى، خصوصاً تلك الأحاديّة وغير المتنوّعة. وينطلق الهاجس الأساسي لهذه القوى ممّا تصفه بالواقع الديموغرافي اللبناني غير المتوازن، والذي لا يسمح بالذهاب إلى قانون "مثالي" إن جاز التعبير، في حين أنّ ​المجتمع اللبناني​ يفتقد إلى الحدّ الأدنى من مقوّمات هذه "المثاليّة" المنشودة، وهو ما يمكن أن يجعل فريقاً محدّداً بلونٍ معيّن من اللبنانيين يقرّر نيابةً عن اللبنانيين جميعاً.

وأبعد من ذلك، ثمّة من يخشى أن تؤدّي إعادة فتح ملف قانون الانتخاب اليوم، إلى إعادة النقاش بمبدأ النسبية ككلّ، من قبل بعض القوى التي خسرت الكثير من حضورها ونفوذها بسببها، وعلى رأس هؤلاء "​تيار المستقبل​" الذي لم يتقلّص حجم كتلته النيابية فحسب، بل فقد ميزة "احتكار" الساحة السنّية، بعدما أجبِر على "مساكنة" خصوم مباشرين له داخل البرلمان. ولا يبدو "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" أفضل حالاً، وإن بقي ممسكاً بالصدارة المطلقة درزياً، إلا أنّه خسر "تنوّعه"، والأهمّ أنّه فقد موقعه كـ"بيضة قبان"، ما وضعه في حالة "إرباك" بشكل أو بآخر.

تصويب على "العهد"؟!

ثمّة من ذهب إلى القول إنّ اختيار رئيس مجلس النواب لهذا التوقيت لفتح ملف قانون الانتخاب، يندرج في إطار معركته مع "العهد"، ليس فقط لأنّه لطالما سعى إلى تصوير القانون الانتخابي الحالي بوصفه أحد أهمّ "إنجازاته"، بل لأنّ "الشياطين" الكامنة في تفاصيل اقتراح برّي قد تحمل بين طيّاتها "رسائل مشفّرة" إلى وزير الخارجية ​جبران باسيل​، الذي قال بعض المحيطين ببري سابقاً إنّ القانون الحالي "فُصّل على قياس مقعده البترونيّ".

لكن، بمعزلٍ عن هذه النكايات والاستفزازات السياسية المتبادلة، يبقى الأكيد أنّ خطوة فتح ملف قانون الانتخاب اليوم ليست مبكرة أبداً، بل إنّ المطلوب أن تنكبّ القوى السياسية على نقاشٍ جدّي وحقيقي وعميق حول قانون الانتخاب من الآن، بدل أن تضغط نفسها في اللحظات الأخيرة، وإن كان المرجَّح أن يوضَع هذا الملف مجدّداً في الدرج خلال الأيام المقبلة، انطلاقاً من كلّ التجارب السابقة...